محمد محمود الإمام يكتب في تاريخ نمو الاقتصاد العالمي .. "من العالمية إلى العولمة"

اقتصاد
نشر
9 دقائق قراءة
تقرير محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام يكتب في تاريخ نمو الاقتصاد العالمي .. "من العالمية إلى العولمة"
مستثمر ينظر إلى مؤشرات لأسواق البورصة العالمية عام 2011.Credit: TORSTEN BLACKWOOD/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم  محمد محمود الإمام، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

شهد الربع الأخير من القرن العشرين نقاشا مستفيضا حول ظاهرة العولمة، التي أدت فيها ثورة المعلومات والاتصالات إلى ربط مختلف أرجاء العالم لتجعل منه "قرية كبيرة". وحدث التحول في ختام سلسلة من الأحداث مر بها العالم منذ بداية القرن العشرين، لا يجوز تناسيها ونحن نتطلع إلى رسم خريطة المستقبل وتبيّن موقع كل من الدولة القومية والفرد فيها، نستعين بها في وضع أسس دولة قادرة على المشاركة في توجيه حركة العالم إلى ما فيه صالح البشرية.

وفي لمحات سريعة نوجز أهم الأحداث التي أعادت تشكيل كل من العالم والدول والأقاليم حتى أوصلتنا إلى الحاضر. ففي بداية القرن العشرين كان المتحكم في خريطة العالم إمبراطوريات بنتها دول قومية، بعضها نحى بها منحى إمبريالياً، يقوم على الاستيلاء قسرا على أراضي أقوام آخرين، للاستيلاء على حصيلة أنشطتها الاقتصادية. وكانت مصر ضمن الدول التي أخضعتها الإمبراطورية العثمانية منذ 1617 متذرعة برفع راية الخلافة، فلم تعن بتحسين أحوالها، واكتفت بفرض الخراج والجزية عليها، وهو ما دفع المصريين إلى ثورات عديدة عندما اشتط الولاة في فرضها. أما البعض الآخر فقد نحى منحى كولونيالياً استعماريا، ليعزز حركة التصنيع التي توالت حلقاتها بخامات يجبر المستعمرات على توفيرها له مقابل تصدير جانب من منتجاته الصناعية. وكان في المقدمة الإمبراطورية البريطانية التي وصفت بأن الشمس لا تغيب عنها. وفرضت تلك الدول الرأسمالية نظاما للتجارة الدولية يقوم على ما يسمى المزايا النسبية، اختصت لنفسها منه ما يقوم على المعرفة الفنية وحصرتها للدول التابعة في الهبات الطبيعية، وتصارعت فيما بينها لانتزاع أكبر قدر من المستعمرات. وانتقلت الإمبراطوريات الأوروبية من سلسلة حروبها الإقليمية تتنازع فيها على ممتلكاتها، إلى حربين عالميتين فصل بينهما عقدان، شهد ثانيهما حروبا تجارية تسبب فيها الكساد الكبير الذي فجره انهيار بورصة وول ستريت في 29/10/1929 في أعقاب موجة رواج وتضخم في الولايات المتحدة.

وهكذا اتخذت الحروب السياسية والتجارية أبعادا عالمية، أشركت فيها دول لا ناقة لها فيها ولا جمل سوى أنها وقعت أسيرة الاستعمار المباشر. ودفع ذلك النوع من الصراع إلى مناداة البعض بإقامة وحدة عالمية "universal". ولكنها فشلت لعدم توفر الأسس الموضوعية التي تكفل نجاحها. فاتجه التفكير إلى تغيير النظام الكلاسيكي السائد في الدول الرأسمالية التي تدعي الحرية لأبنائها، باقتران ديمقراطية سياسية بحرية للأسواق. فقامت ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية في روسيا، بينما عمدت دول هزمت في الحرب العالمية الأولى إلى إعادة بناء نظمها السياسية مقتدية بالنموذج الياباني الذي شكل مركزا استعماريا في شرق آسيا، تلعب فيه الدولة دورا بارزا في الشؤون الاقتصادية، فظهرت الفاشية الإيطالية في العشرينات والنازية الألمانية في الثلاثينيات، واتجهت الدول الثلاث إلى استعمار ما عداها من دول استعمارية فنشبت الحرب العالمية الثانية، التي اختتمت بإسقاط قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، لينتقل العالم من حروب عالمية إلى أسلحة عالمية، تنذر بدخول العالم كله شتاء نوويا.

ورغم أن العالم حرص على تدعيم السلام والأمن العالميين، وإعادة تعمير ما خربته الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة أكثر من 50 مليون نسمة، وإحداث تنمية تحد من دوافع الصراع، بإنشاء تنظيم سياسي اقتصادي عالمي عماده هيئة الأمم المتحدة (التي روعي فيها تفادي القصور الذي شاب عصبة الأمم التي أقيمت عقب الحرب الأولى)، ومعها منظمات قطاعية قائمة ومستجدة ومؤسسات اقتصادية ضمت صندوق النقد الدولي ليسيطر على الأنظمة النقدية وعماده الدولار الأمريكي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ثم اتفاقية الـ "جات" كبديل بمؤسسة تجارة دولية، فإن البعد الإقليمي اكتسب اهتماما كبيرا، مع انقسام العالم إلى ثلاثة: العالم الأول يضم الدول الرأسمالية، وفي قلبه أوروبا الغربية التي أقامت سوقها المشتركة كمقدمة لوحدة سياسية، والدول الاشتراكية التي اهتمت بالتعاون لإعادة بناء اقتصاداتها وفق أسس جديدة، ثم العالم الثالث الذي سعت أقاليمه إلى إقامة تكتلات اقتصادية لم تحظ بنجاح كبير، خاصة مع محاولة العالم الأول ربطها بأحلاف تستعين بها في حرب باردة مع العالم الثاني، فتصدت لها في مؤتمر "باندونغ" وشكلت مجموعة عدم انحياز للتخلص من القيود السياسية والاقتصادية والتركيز على التنمية بدفع الأمم المتحدة إلى وضع أسس نظام اقتصادي دولي جديد في 1974، بينما تصدت مصر الناصرية إلى حلف بغداد واستردت قناتها فكانت حرب 1956، ثم أقامت منظمة التضامن الآفروآسيوي لتعزيز استقلال دوله السياسي، ودفعه للاقتداء بمنهجها القائم على التصنيع وهو ما هدد بإجهاض الاستعمار الجديد، فكانت حرب 1973 بإشراف أمريكي، ثم دفعها إلى انفتاح اقتصادي رغم انتصار أكتوبر/تشرين أول عام 1967، لتعود مرة أخرى للارتباط بالاقتصاد العالمي تحت الهيمنة الأمريكية، القائمة على آليات فرض التبعية من خلال الشركات عالمية النشاط.

ورغم أن الاتحاد السوفيتي حقق سبقا في أوائل الستينيات في غزو الفضاء، فإن الولايات المتحدة عمدت إلى توجيه هذا الغزو، بجانب الاستخدامات العسكرية، إلى إشراك قطاعات الأعمال، لتكتمل أركان الثورة التكنولوجية، ويدخل العالم عصر ما بعد الصناعة التي ما زالت دول نامية توسع فيها، إلى مجتمع المعلومات والاتصالات. من جهة أخرى أدى إفراط الولايات المتحدة في تعزيز الاستهلاك بشقيه الجماعي الذي تخصص الجانب الأكبر منه لحروب وانتشار عسكري في أرجاء العالم (وما قاعدتها في قطر وأساطيلها في المياه العربية إلا قطرة في بحر) والعائلي الذي تغذي فيه اقتناء السلع المعمرة التي تتفنن في تنويعها، إلى إضعاف الدولار وانهيار النظام النقدي العالمي (بريتون وودز) في أوائل السبعينيات مع رفع أسعار القمح ثم ارتفاع أسعار البترول، ليعاني العالم ظاهرة هي الأولى من نوعها تجمع بين التضخم والركود، ثم المناداة باستخدام السياسة النقدية كأداة لتوجيه الاقتصاد، وما تلا ذلك من ارتفاعات فلكية في أسعار الفائدة، ليقع العالم الثالث فريسة لضغوط جعلت الثمانينيات عقدا ضائعا للتنمية، أي أن الولايات المتحدة تخلصت من ضائقتها بإلقاء تبعتها على الدول النامية.

في 1985 أثناء مؤتمر يناقش مستقبل الناصرية، أشرت إلى أن "العالم الثالث انتقل من الاستغلال إلى الاستغناء". فلم تعد الدول المتقدمة محتاجة إلى البشر الذين اتخذت منهم عبيدا، ثم استعبدتهم داخل دولهم، ولم يعد لها مع الثورة التكنولوجية حاجة إليهم. ففي عالم تسوده المعرفة لا النشاط البدني والعقلي لا يجد من لم توفر له ظروف الإسهام المعرفي أي ضرورة. وأضفت إلى ذلك أن المستقبل سيشهد تقاربا بين العالمين الأول والثاني لأنهم شركاء في الجذور الحضارية وفي الثورة التكنولوجية، وهو ما تحقق، ولم يصبح أمام الدول الرأسمالية سوى توجيه الثورة التكنولوجية للتخلص من أزمات نشبت أولاها في 2008. وهي تجتذب الأفراد الواعدين بتعزيز تلك الثورة إليها، ليتركوا أوطانا يتطاحن فيها بشر بعضهم يعيش في الماضي السحيق والآخر غريق فيما حوله. ومن ثم كان لابد من إعادة صياغة مفهوم التنمية الاجتماعية المتصفة بالكفاءة والعدالة، وإلا تلاشت الأوطان وأصبح أهلها في خبر كان.