رأي.. الدولة والمرور في مصر

اقتصاد
نشر
8 دقائق قراءة
رأي.. الدولة والمرور في مصر
ازدحام مروري على جسر ستة اكتوبر في القاهرةCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم ابراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

الدولة، بدءا برئيس الجمهورية مرورا برئيس الوزراء ووصولا إلى المحافظين ومن هم دونهم، عبّرت مؤخرا وبشكل متكرر عن انشغالها بمسألة المرور في مصر. في بلدان عربية شقيقة، يطلق على "المرور" "السير"، فيسأل السائلون عن حالة "السير" في ساعة ما في هذه المدينة أو تلك. لفظة "السير" تعبّر عن المراد وهو الانتقال بين نقاط في المدينة أو البلد المعنية ونقاط أخرى فيهما، على الأقدام أو بمركبات تسير.

قد يندهش غير المصريين وبعض المصريين من انشغال الدولة على أعلى مستوياتها بمسألة المرور ولكن حسنا تفعل الدولة بهذا الانشغال. في مصر، كما في كافة البلدان الأخرى، مبان سكنية وإدارية، ومزارع، ومصانع، وجامعات، ومدارس، وأسواق، وغيرها، ولكن كل هذه النقاط لا تكوّن كلا واحدا، سواء كان هذا الكل مصر، أو أي بلد أخرى، إلا إذا كانت هذه النقاط متصلة ببعضها البعض، عن طريق "السير" بين نقطة وأخرى أو عبر الاتصالات السلكية واللاسلكية. "المرور" هو بمثابة الدورة الدموية التي تربط بين أعضاء الجسد الواحد، إن تباطأت الدورة الدموية أو عاقتها جلطات أصبح الجسد عليلا لا يقوى على الاضطلاع بوظائفه ويستحيل عليه تنفيذ ما يتطلع إليه. لا غرابة في أن واحدة من أولى وظائف الدولة هي التخلص من قطاع الطرق. اختناقات المرور هي جلطات وهي بمثابة قطع للطرق في آثارها على أرواح الناس ومصالحهم -- ابراهيم عوض

***

المرور في مصر فوضى عارمة. المؤشرات على آثار هذه الفوضى على حياة المواطنين وعلى الاقتصاد عديدة. دراسات حديثة تشير إلى أن عدد القتلى في حوادث المرور سنويا يناهز العشرة آلاف -- ابراهيم عوض، وأن معدل القتلى إلى كل مائة ألف من المركبات يصل إلى 183.3 بينما يبلغ هذا المعدّل في الدول العربية 133.8 في الأردن، و132.6 في تونس، و103 في السعودية، و22.8 في الكويت، وهو لا يتعدّى 31.4 في ماليزيا، و24.7 في الأرجنتين، و8.5 في فرنسا، و5.8 في شيلي، و5.7 في الدانمارك. كيف لا تنشغل الدولة المصرية بالمرور بينما الوظيفة الأولى على الإطلاق للدولة هي الحفاظ على حياة المواطنين وممتلاكاتهم. الاختناقات المرورية في القاهرة تقدّر الخسائر من ورائها بـ 47 مليار جنيه، أي ما يعادل 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المصري، بينما لا تؤدي الاختناقات في جاكارتا إلا لخسارة 0.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأندونيسي. الخسارة توزع على الوقت الضائع على المواطنين وعلى النشاط الاقتصادي، وعلى التأخير، وعلى نفقات العلاج من آثار حوادث ومن أمراض مرتبطة بالمرور.

***

المسألة خطيرة والبدء في التصدي لها واجب. خطورة المسألة تستدعي تصديا جادا أولى خطواته هو تحليل المسألة من كل جوانبها وإدراك أن التصدي لابدّ أن يكون مركّبا وأن تكون خطته متعددة السنوات وعلى مراحل -- ابراهيم عوض. القول بأن مسألة المرور في مصر تحلّ في مائة يوم، كما قال من قال يوما، أو في حتى في سنة واحدة هزل واستهتار، بل إن فيه عدم احترام للمواطنين ولمداركهم. لم تبق قاعدة واحدة من قواعد المرور محترمة في مصر. أول أدوية العلاج هو أن تيسّر الدولة احترام قواعد السير. الخروج على قواعد تخطيط السير في المدن وإعطاء المسئولية عنه لغير مهندسي الطرق من أهم أسباب الفوضى وضرب عرض الحائط بالقواعد غير المعقولة وغير المسبوقة التي يصممونها. تدريب السائقين واختبارهم ومراقبة الالتزام بقواعد السير كلها غائبة ولابدّ من تفعيلها بجدية. ومع ذلك، ومثلما هي الحال في المسائل الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، فإن القواعد المتعلقة بالمرور وحدها لن تكون كافية.

خذ سياسة النقل. كيف يمكن في بلد بصغر المساحة الفعلية لمصر أن تكون نسبة هائلة من النقل فيه عن طريق البر وأن يتخلّى عن النقل النهري وعن النقل بالسكك الحديدية بدلا من أن يتوسع فيهما؟

السياسة العمرانية والعقارية، وقوانين البناء والتلاعب فيها، مسئولة مسئولية مباشرة عن مسألة المرور. كيف يمكن أن تتوقع انسيابا للمرور في منطقة كانت مصممة شوارعها ليعيش فيها مائة ألف ساكن، فتتغير شروط البناء ليعيش فيها نصف مليون -- ابراهيم عوض في مبان بدون جراجات؟ كيف للدولة أن تصرّح بتشييد بناء إداري عملاق في ميدان صغير؟ منذ القرن التاسع عشر تنبه مفكرون إلى أن السياسة العقارية والعمرانية في قلب السياسة، لأن فيها توليدا وتوزيعا للقيم، وبالتالي فإن المرور في قلب السياسة والاقتصاد أيضا.

خذ الاقتصاد غير المنظم والباعة الجائلين الناشطين فيه. الباعة الجائلون يعرقلون السير. ولكن لماذا يوجد باعة جائلون أصلا؟ أليس لأنه لا يوجد لهم عمل منظم في الاقتصاد الحديث، من جانب، ولعدم قدرتهم على الوفاء بإيجارات المحلات، من جانب آخر؟ ألا يوجد الباعة الجائلون أصلا لأن لهم سوقا من أولئك المواطنين الفقراء غير القادرين على الشراء من المحلات المرخّصة؟ عالج الاحتياجات الاقتصادية للباعة الجائلين ولزبائنهم، تكون قد أسهمت أيضا في التصدي لمسألة المرور -- ابراهيم عوض

ولابد أن تكون مبتكرا في التعامل مع مسألة المرور في مدينة كالقاهرة أو في أي مدينة مصرية أخرى. وسائط النقل متعددة من مركبات ميكانيكية إلى وسائط الجرّ البشري، من عربات يدّ، أو حيواني، من عربات "كارّو". هذه الوسائط ذات السرعات المتباينة تكشف عن مرحلة في التنمية تتجاور فيها وسائل الإنتاج المنتمية لحقب مختلفة في التاريخ. تقدم في التعامل بفاعلية مع التنمية تكون قد أسهمت إسهاما هائلا في علاج مسألة المرور. ليس من قبيل المصادفة أن أقل معدلات الوفيات نتيجة لحوادث الطرق توجد في البلدان المتقدمة.

والفقر. أليس الفقر الذي يحول دون أن يجدد الناس مركباتهم أو أن يصلحوها فتتعطّل لتصبح جلطات في أوعية السير؟ أليس هو السبب في أن يترك الناس مركباتهم تلوث البيئة وصحتهم وصحة غيرهم من المواطنين؟ إبدأ في المعالجة التدريجية والفعالة للفقر تكون قد شاركت في إيجاد حل لمسألة المرور.

***

الهدف من وجود الدولة هو أن تنظم للمواطنين حياتهم وأن تيسرها. تقصّر الدولة في أداء وظائفها، وهذا التقصير يؤخذ على نظامها السياسي أساسا، إن هي لم تبدأ فورا في معالجة مسألة المرور في مصر. غير أن العلاج الفعلي والفعال يحتاج إلى انفتاح، وإلى التسليم بتعقد المسألة وبطابعها المركب، وإلى أن يعهد بالأمر إلى الخبراء الهندسيين، والاجتماعيين، والاقتصاديين، الذين يكمل عملهم بعد ذلك الساهرون على تطبيق القواعد.