رأي.. اقتصاد مصر وقناة السويس الجديدة

اقتصاد
نشر
8 دقائق قراءة
تقرير جواد العناني
رأي.. اقتصاد مصر وقناة السويس الجديدة
Credit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images)

 عمان، الأردن (CNN)-- هل يضيف مشروع قناة السويس الجديد إلى الاقتصاد المصري جديداً؟ هل كانت كل هذه الدعاية التي رافقت الإنجاز الحسّي على الأرض مستحقة وتتناسب مع أهمية المشروع؟ وما هي الآثار البينية المتوقعة أن تنتج عن هذا التدخل المباشر في الطبيعة؟ كل هذه الاسئلة وغيرها كانت محور أحاديث وجدل اكثره خارج مصر، وأشده حماساً للمشروع جاء من داخل مصر، وعبر وسائلها الإعلامية.

وإنني أود أن أعلن رأيي منذ البداية أن هذا المشروع ينطوي على فوائد جمّة للاقتصاد المصري، والتي يصعب إنكارها، ومن يحاول جهاراً نهاراً فهو كما يقول المثل المصري "كمن يسعى إلى أن يغطي الشمس بغربال".

ولعل المصدر الأساسي لكثير من فخر المصريين، والنظام الحالي في مصر، هو الفاعلية التي أنجز بها حفر القناة الجديدة التي يبلغ طولها حوالي (35) كيلومتراً من مدينة الإسماعيلية، وتعميق القناة القديمة ذات طول (164) كيلومتراً على امتداد (37) كيلومتراً منها لكي تستوعب سفناً أكثر. وقد أنجز المشروع في مدة قياسية أقل بكثير من التقديرات الأولية.  ويتوقع مدير عام هيئة قناة السويس ان يزيد دخل القناة من المشروع الجديد الى (12) مليار دولار سنوياً، بدلاً من نحو خمسة مليارات دولار قبل حفر القناة الجديدة.

والواقع أن الأجهزة الرسمية في مصر أرادت من وراء تسريع الإنجاز إكساب صفة الجدية والصدقية على أن مصر بشقيها الرسمي والشعبي قادر على إنجاز الكثير متى ما توافرت لمصر ظروف الأمن والأمان. وإن تعزيز ثقة أهل مصر ببلدهم بعد الذي مرت به من ثورات وثورات مضادة، وبعد ما عانته من اتهامات وتشكيك في قدراتها على حفظ الأمن، وإقامة مشروعات لدفع الاقتصاد المصري قد أصبح أمراً مهماً، ورافعة معنوية هائلة.

وهذا الدفع المعنوي الكبير لا يمكن وضع قيمة حقيقية له بالأساليب الاقتصادية القياسية المعروفة. وبالطبع هذا لا يعني أن الاقتصاديين غير قادرين على احتساب أي شخص بفرضياتهم واستخدامهم للمتغيرات البديلة وغيرها، ولكن رفع المعنويات له أبعاد طويلة الاجل أكبر بكثير مما تلمحه العين المجردة، أو يدركه العقل المركز على الفوائد العاجلة بدل الآجلة.

وأما الفائدة الأخرى، فتنبع في الدرجة الاساسية من موقع مشروع قناة السويس في تاريخ مصر نفسها. لقد كان الاحتفال بإنجاز قناة السويس أيام الخديوي إسماعيلي عام (1968) مناسبة كبيرة رغم أن المشروع بحد ذاته استغرق خمس سنوات لإنجازه بالمقارنة مع ثلاثة اشهر لإنجاز المشروع الجديد، ورغم أن المشروع الاساسي أدى إلى وفاة الآلاف من حرارة الشمس وطول ساعات العمل. وبعد انتهاء الاحتفال المهيب الذي حضره نابوليون الثالث امبراطور فرنسا آنذاك وزوجته الجميلة، اوجيني، وعرضت أوبرا عايدة من تأليف الإيطالي، فيردي، لأول مرة عن اسطورة مصرية قديمة. ذهب معظم مجد إنجاز القناة ليس لمصر، ولا لأهلها الكادحين، وإنما للمهندس "فيرديناندز دي ليسيبس"، الذي أقنع الجميع بالمشروع، وأشرف عليه.

أما المشروع الجديد فهو مصري التصميم والإنجاز. وقد استخدمت فيه الآليات الثقيلة القادرة على إزالة عشرات الأطنان من الرمل والحصى بغَرفة واحدة. ولذلك لم ينتج عن حفر القناة حكايات مأساوية عن عمال ماتوا، أو هربوا من الخدمة. فالمشروع الأول قد انطوى اثناء تنفيذه وبعد إنجازه على هجرة آلاف العمال إلى بلاد الشام. ولذلك نتج عنه آثار ديمغرافية ما يزال صداها حتى الآن في فلسطين والأردن، وإلى قدر أقل في سوريا.

وللتفكير في المشروع الجديد بمفهوم استراتيجي، فهو يعزز دور قناة السويس كشريان دولي للتجارة الدولية بأبعادها السلعية والخدمية. وهي تأتي ضمن أكثر من منظومة دولية جديدة.

فالعراك في القرن الإفريقي، وبخاصة في جنوب اليمن والصومال سوف ينتهي، ولن يطول. وإذا ما تحقق الهدوء وضمان انسياب الحركة البحرية عبر مضيق باب المندب من شمال الكرة الأرضية وجنوبها، فإن قناة السويس سوف تتعزز مكانة وأهمية. فإنجازها التاريخي قد ربط بحري المتوسط والأحمر فصارت الطريق ممهدة من المحيط الهندي وبحر العرب عبر باب المندب إلى البحر الأحمر، وعبر قناة السويس الى البحر المتوسط وأوروبا، ومن خلال مضيق جبل طارق الى المحيط الأطلسي والقارة الأمريكية.

ولأن الشحن البحري في العالم صار يتطلب عبور سفن عملاقة توفيراً للكلف، ولأن الشحن البحري لا يمكن الاستغناء عنه، فإن مشروع توسعة القناة يجعلها مؤهلة لاستقبال سفن أكبر.

وهذه الحقيقة تطرح السؤال حول مستقبل مشاريع الأنابيب الناقلة للنفط والغاز، وبخاصة تلك التي تسعى لتجاوز دفع رسوم عبور القناة، أو الراغبة في اختصار المسافات. وحتى لو حصل أن مشروعات الانابيب قد نفذت، فإن ذلك سيؤدي إلى تعزيز مكانة الشحن البحري، حيث إن بعض مشاريع الأنابيب سوف تنتهي بموانئ بحرية حيث تنتظر السفن لنقل حمولاتها الثمينة عبر القناة. فمن ناحية قد تقلل الأنابيب الطلب على خدمات قناة السويس، ولكن من ناحية أخرى يعزز ذلك الطلب.

وبالتوسعة الجديدة، أصبحت قناة السويس أقدر على أن تكون منافسة من حيث الكلفة، واستقبال سفن الشحن الكبرى والبارجات الضخمة، وأعلى كفاءة من السابق في هذا المضمار.

والجانب الآخر الذي نسمع عنه ولا يثار ضمن إطار قناة السويس بالقدر الكافي، هو المشروع الصيني لإعادة إحياء طرق الحرير البرية والبحرية. وستكون قناة السويس مهمة لهذه الغاية. وإذا زادت تجارة أوروبا وأمريكا مع الدول الإفريقية الواعدة كالتي زارها الرئيس أوباما مثل كينيا وأثيوبيا وتنزانيا وغيرها، فإن تجارة الجزء الشمالي من العالم مع القارة الإفريقية سيعزز من مكانة قناة السويس.

قناة السويس لمصر موضع فخر بإنشائها في الجزء الثاني من القرن التاسع عشر، وتأميمها عام 1956 وما نتج عنه من حرب اعادت توزيع خارطة القوى الدولية في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، وعام 2015 بافتتاح قناة السويس الجديدة. والآثار البيئية مبالغ فيها مقابل فوائدها لمصر.

أمام هذه الحقائق والاعتبارات، أرى أن مصر كانت موفقة في إنجاز المشروع وتنفيذه بالأسلوب الصحيح والوقت الأصح، والاحتفال بتدشين المشروع الجديد بحضور رؤساء دول وشخصيات عالمية يأتي هذه المرة بطعم جديد ومذاق جديد.

لا شك أن المشروع وافتتاحه القادم سيكون مناسبة لتعزيز موقف النظام المصري في المنطقة والعالم، وهذا في تقديري أمر لا بأس به. فنحن نريد دولة عربية كمصر أن تنجح صناعياً وإنشائياً وأمنياً حتى يكون عندنا دولة عربية تنافس الأقطاب الثلاثة من غير العرب في المنطقة وهم إيران وتركيا وإسرائيل.