سلمى حسين تكتب عن أزمة العملة في مصر: الجنيه في "بلاد الجنون"

اقتصاد
نشر
11 دقيقة قراءة
سلمى حسين تكتب عن أزمة العملة في مصر: الجنيه في "بلاد الجنون"
متظاهرة مصرية خلال تجمع حاشد في وسط القاهرة احتجاجا على زيارة وفد من صندوق النقد الدوليCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم سلمى حسين، صحفية وباحثة من مصر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

شربة الحاج محمود، هي دواء انتشر في بداية القرن العشرين، كان يصفه المعالج لأكثر من مائة نوع من الأمراض. عادة ما يعاب على صندوق النقد الدولي أنه لا يملك سوى شربة الحاج محمود، وصفة وحيدة لأي داء ولكل داء أيا كان المرض وأيا كانت حالة المريض. لعل شرط الصندوق تخفيض قيمة الجنيه المصري للحصول على القرض هو المثال الأبرز على ذلك.

أيا كانت مشاكل الاقتصاد، في أي بلد، يضغط الصندوق من أجل تحرير سوق الصرف. أي إخضاع العملة المحلية لقوى العرض والطلب.

للمفارقة، نشأ صندوق النقد الدولي في النصف الأول من القرن العشرين من أجل الحفاظ على ثبات أسعار الصرف العالمية مقابل الذهب، ثم مقابل الدولار لاحقا. ثم تقرر تحرير أسعار صرف العملات حول العالم مقابل الدولار، بدرجات مختلفة. وهو قرار كان ولا زال لصالح الاقتصاد الأمريكي. وتتبنى معظم الدول حاليا نوعا أو آخر من التحرير المُدار.

منذ عامين، يضغط الصندوق على مصر كي تخفض من قيمة عملتها أمام الدولار. ويسوغ عددا من الأسباب الاقتصادية دفاعا عن تلك السياسة.

وفي الواقع، سمح البنك المركزي المصري للجنيه أن ينخفض تدريجيا أمام الدولار، ليفقد حوالي 20 في المائة من قيمته حتى الآن. ولكن السوق السوداء كانت أسرع وأقسى.

النتيجة المباشرة لانخفاض قيمة الجنيه هي ارتفاع الأسعار ومن ثم معدل التضخم.

جنيه أضعف يساوي عجز موازنة أكبر

في بلد مثل مصر، يعتمد على الخارج لتوفير معظم غذائه ولوازم الصناعة، سيعني انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار أنه يلزم قدرٌ أكبر من الجنيهات لشراء الدولار، وبالتالي ترتفع فاتورة شراء الغذاء والمدخلات الصناعية. على سبيل المثال، تتحمل خزانة الدولة تكاليف استيراد القمح لزوم الخبز المدعم. وقد تم تقدير هذه التكلفة للعام الحالي بحوالي 20 مليار جنيه، على أساس سعر صرف 9 جنيه للدولار.

وهكذا، إذا افترضنا أن سعر صرف الدولار سيرتفع بمقدار 25%، بحسب توقعات مركز أبحاث كابيتال إيكونومكس، فإن فاتورة استيراد القمح سترتفع إلى 24 مليار جنيه. وتتوالى الأمثلة.

ستتأثر أيضا واردات الحكومة من المواد البترولية، والآلات والمعدات وبقية المواد الغذائية، وهو ما يقدر في الموازنة بحوالي مائة مليار جنيه. كما سترتفع تلقائيا فاتورة سداد القروض الخارجية وفوائدها (قدرت في الموازنة ب 49.2 مليار جنيه ستقفز إلى 61.5 مليار جنيه، في حالة تخفيض قيمة الجنيه، لتدبير ما يعادل 5.5 مليار دولار). والمحصلة النهائية هي زيادة النفقات الحكومية ومن ثم زيادة عجز الموازنة بنسبة قد تصل إلى 3 في المائة، فقط بسبب تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار. وهو ما يعني فشل مصر في تطبيق أهم تعهد وضعته أمام البرلمان وأمام البنك والصندوق الدوليين، وهو خفض عجز الموازنة. هذا ما تفضي إليه شربة الحاج محمود في بلد مثل مصر.

فتش عن المستفيد

ومع ذلك، يقول البعض، أن انخفاضا إضافيا يقدر ب25٪ في سعر الجنيه، غير كافٍ للقضاء على السوق السوداء. فكأننا سنتحمل كل هذا الثمن الباهظ، حكومة وشعبا، بلا فائدة، ليظل الدولار مرتفعا وتظل السوق السوداء متربعة فوق القانون. إذ وفقا لأدبيات الصندوق يؤدي القضاء على السوق السوداء والتحرير الكامل لسعر العملة المحلية أمام الدولار إلى جذب الاستثمار الأجنبي وتنشيط الصادرات، مما يزيد من تدفقات الدولارات إلى مصر، وبالتالي ينخفض تدريجيا سعر الدولار من جديد (بعد إفقار وتجويع من يعيشون على أقل من 1.9 دولار في اليوم، أي أكثر من ثلث المصريين).

أهم من يروج لتلك السياسة العنيفة تجاه الشعب هم المستوردون (شبكة معقدة من المجموعات الاقتصادية الكبيرة التي تستورد وعادة تنتج وتصدر أيضا). هؤلاء هم أكبر المتضررين من سياسات ترشيد الاستيراد الحالية والتي يتبناها البنك المركزي. ولهذا أكثر من حكاية. نسرد إحداها على سبيل المثال.

في عام 2015، بعد أيام من نشر قائمة أولويات تدبير الدولارات للصناعات والقطاعات المختلفة، والتي بدت منطقية في ظل أزمة نقص الموارد الدولارية، خرجت شركة مصرية هي ذراع لشركة عالمية لتصنيع السيارات، وثاني أكبر بائع للسيارات في مصر، لتعلن توقيف انتاجها اعتراضا على عدم تدبير احتياجاتها من الدولار. فما كان من محافظ البنك المركزي إلا أن أذعن، ثم أقيل، ليجيء خلفه بنفس الهدف، ترشيد الواردات، مع تعديلات فرعية. فما كان من هؤلاء المستوردين إلا أن قاموا بتنشيط السوق السوداء للدولار، ليرفعوا سعره، ومن ثم يضعون البنك المركزي في مأزق. وهكذا، ارتفع سعر الدولار غير الرسمي إلى أكثر من 11 جنيه. وتم الترويج لما أصبحت الكلمة الأكثر تداولا في دوائر الاقتصاد: أزمة الدولار. فهل فعلا يعاني الاقتصاد المصري من أزمة نقص في الدولارات؟

لا نقص في دولارات هذا البلد؟

حسنا، فلنبدأ من أول الحكاية. في عالم التحرك الحر لرؤوس الأموال صار من الصعب جدا على أي دولة فرض قيود على خروج ودخول الأموال. إذا أرادت الدولارات بقيت في البلد وإذا أرادت خرجت. بما يعني ذلك من صعوبة التحكم في كمية وسعر صرف الدولارات.

نعم، انخفضت موارد هذا البلد من الدولارات التي تأتي من السياحة. فقد بلغت مؤخرا7.4  مليار دولار مقابل أكثر من 10 مليار قبل الثورة. وانخفضت أيضا عائدات التصدير انخفاضا كبيرا، وعائدات قناة السويس قليلا. ومن ثم، خلقت هذه العوامل -التي هي من فعل الأقدار، ومن ثم لا يمكن التحكم فيها- هذا عجزا في الميزان الذي يوضح التعاملات المصرية مع الخارج. ومن هنا نقول أن هناك أزمة دولارات. إلا أن الصورة ليست بهذه البساطة.

ففي مقابل تلك الدولارات التي حرمت منها مصر، هناك بنود أخرى لا يتم التركيز عليها، مع أنها –على عكس البنود السابقة- يمكن علاج مسبباتها والحد منها. والأمثلة كثيرة.

مثلا، هناك حوالي 7 مليار دولار خرجت من مصر خلال العام 2015-2016، في شكل عوائد استثمار الأجانب في الشركات وفي السندات الحكومية. الجزء الأكبر من هذا المبلغ حولته الشركات الأجنبية التي تستثمر في مصر إلى بلادها الأم. في حين أن هناك عدد كبير من الدول النامية والمتقدمة تفرض قواعد للحد من تلك التحويلات إلى الخارج، وتشجع إعادة استثمارها داخل البلد، لخلق المزيد من فرص العمل والنمو.

هناك أيضا أكثر من 3.5 مليار دولار خرجت من مصر للإنفاق على السفر خارج مصر خلال العام الماضي (هذا الرقم تضاعف 150% عما قبل الثورة(.

كما أظهرت بيانات البنك المركزي أن تحويلات العاملين بالخارج بلغت أرقاما قياسية في الأعوام التي تلت الثورة. فقد دخل العام الماضي ما يزيد على 19 مليار دولار (مقابل 12.5 مليار عام الثورة). ولكن معظم هذه الأموال لا تدخل البنوك المصرية لأسباب كثيرة، يؤدي علاجها وحده إلى عدم الاحتياج لقرض الصندوق ولا شروطه، وينعش سوق الصرف بالدولارات، ما يسمح برفع قيمة الجنيه.

هناك أيضا ما يظهر في بيانات البنك المركزي من تهريب للأموال متضمنا في بند السهو والخطأ والذي ارتفع إلى 2 مليار دولار، ثم زاد خلال التسعة أشهر الأولى من العام المالي التالي (2015-2016) إلى4.2  مليار دولار.

وبشكل عام، هناك عدد من الأشكال المشروعة لخروج الأموال مثل إصدار أسهم دولارية لشركات مصرية في بورصة لندن. من الممكن أن يبيع المساهم المصري أسهمه المدرجة في البورصة المصرية، ثم يشتري أسهما دولارية من بورصة لندن في نفس الشركة (أو غيرها)، ثم بيعها لاحقا والاحتفاظ بدولاراته خارج البلاد. وهذا النوع على الحكومة الحد منه عن طريق سياسات ضريبية رادعة.

ولكن هناك أيضا طرق غير مشروعة، مثل تلك التي يشير إليها التقرير الدولي عن التدفقات النقدية غير المشروعة، أحد أهم التقارير الدولية. أكثر من نصف الأموال المهربة خرجت من مصر في شكل فواتير صادرات مضروبة بأقل من قيمتها، ويتم تحويل باقي ثمن السلع المصدرة إلى حساب آخر للمُصَدر المصري خارج البلاد. في العقد  2003-2013وحده خرج من مصر مبلغ يقدر ب25 مليار دولار في شكل فواتير تصدير مضروبة، عدا المبالغ الأخرى التي خرجت بأشكال أخرى من التهريب.

وقد يقول قائل، أن تهريب الأموال يحدث حين تفرض دولة ما قيودا شديدة على الخروج الحر لرؤوس الأموال. ولكن ذلك ليس حالنا في مصر. إذ وفقا لموقع صندوق النقد الدولي تتمتع مصر بأكبر قدر من حرية حركة رؤوس الأموال الدولية، بل تتفوق على معظم الدول التي تسبقها على سلم التنمية مثل جنوب أفريقيا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك وتشيلي وطبعا الصين والهند، بل وتسبق عددا من الدول المتقدمة مثل روسيا وأستراليا، ولا يماثلها حرية سوى عدد من الدول المتقدمة صناعيا، مثل كندا والولايات المتحدة وعدد من دول أوربا الغربية.

الخلاصة، هناك عدد من الخيارات أمام صانع القرار، أبعد من مجرد تخفيض قيمة الجنيه، بعضها يتعلق بالفساد، والبعض الآخر يتعلق بانعدام الثقة في الحكومة والنظام المصرفي، لا يتطلب علاجها أكثر من إعلان نوايا صادق وعامين من الإصلاح. وهي نفس الفترة التي قضتها الحكومة في التفاوض مع البنك الدولي والصندوق من أجل تأمين قروض خارجية، لسد أزمة صورتها لها مستحكمة خطيرة. ولكن البعض يفضل شربة الحاج محمود، لأنه محمي من ويلاتها.