محمد رؤوف حامد يكتب: الدواء فى مصر.. كيف وصل إلى وضع "كش ملك"

اقتصاد
نشر
9 دقائق قراءة
محمد رؤوف حامد يكتب: الدواء فى مصر.. كيف وصل إلى وضع "كش ملك"
Credit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم محمد رؤوف حامد، أستاذ الرقابة والبحوث الدوائية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضورة عن رأي شبكة CNN.

من الخطأ الظن أن تعويم الجنيه هو السبب فى الفوضى الدوائية الجارية في مصر. التعويم لم يكن إلا الثقب الذى أظهر عورات المنظومة الدوائية ككل. إنه ليس إلا المحطة الأحدث فى مسار محطات كبرى للتدهورات المزمنة فى الأوضاع الوطنية للدواء، والتى تراكمت -فى تسارع- على مدى عقود، وتحديدا منذ 1974.

وهكذا، .. ما جرى، ولازال يجرى، من الفقدان للضبط المنهجى العلمى لشؤون الدواء يقود البلاد إلى محطات أكثر سوءا. فى هذا الخصوص يعرض التناول الحالى لمسارات الانحراف فى الأوضاع الوطنية للدواء وصولا إلى الفوضى.

بداية، يجدر الانتباه إلى أن الدواء ليس كأى سلعة. إنه سلعه متفردة فى كون الحاجة إليه لم تتوقف على مدى الزمن، وأنه لا يمكن لمن يحتاجه أن يستغنى عنه.  ذلك إضافة إلى أن وجوده وتطوره يعتمد على البحث العلمى المستمر. أيضا، من الخصوصيات المهمة للدواء أنه فى المسافة بين خروجه من المصنع وتناوله بواسطة من يحتاجه يخضع لمسارات حرجة.

من ذلك أن الحكومات تقوم بالرقابة القومية على جودته ومأمونيته وفاعليته، كما تضبط الترتيبات السياسية والمالية والتأمينية لضمان وصوله إلى من يحتاجه، وبالأسعار التى يقدر عليها. من ذلك أيضا أن للدواء شركات استيراد وشركات بيع، وله تقاليد طبية وصيدلانية، مهنية وعلمية، بخصوص ترشيد ومراقبة وصفه وصرفه للمرضى.

إضافة إلى ما سبق ذكره، يخضع الدواء لمتابعات طبية واقتصادية ومالية متواصلة طوال تواجده فى السوق، سواء لرصد الآثار الجانبية، أو للتقييم الاقتصادي لكفاءته العلاجية،Pharmaco-economics  أو من أجل تخفيض أسعاره تدريجيا.

وهكذا، كنتاج إجمالي لهذه الخصوصيات، من الطبيعى أن يخضع الدواء للتسعير. وإذا كانت الفوضى الجارية قد سمحت للبعض البدء بالمطالبة بتحرير سعر الدواء، الأمر الذى يُعد ملمحا خطيرا للفوضى.

أما عن الفوضى الجارية بشأن وفرة وأسعار الأدوية والمستلزمات الطبية، فإن سببا رئيسيا لها يكمن فى اعتماد -يكاد يكون- كلى على الاستيراد؛ استيراد المواد الخام، وإلى حد كبير استيراد المنتج النهائي، مما جعلنا منذ زمن أسرى موقف "كش ملك".

هذه الإشكالية ليست وليدة اللحظة، إنها تكشف عن مجمل السيئات المتراكمة فى الشأن الدوائى المصرى. المسألة إذن أنه، ما لم يحدث إدراك واستيعاب لهذه السيئات وميكانيزمات استفحالها، لا ينتظر تعاملا رشيدا فى الأوضاع الوطنية للدواء.

بإيجاز، تنقسم السياسات الخاصة بالشأن الدوائى الوطنى إلى مجالين، مجال توفير الدواء لمن يحتاجه، وبالسعر الذى يناسبه، ويسمى بالسياسة الدوائية الوطنية، ومجال صناعة الدواء.

هنا تجدر الإشارة إلى أنه، خلال عام 1988، عندما وُوجهت القيادات الدوائية العليا فى البلاد بواقع (وطبيعة) الضعف فى الصناعة الوطنية، وفى سياسات توفير الدواء، كانت ردود أفعالها أن الأوضاع "عال العال"، وأن كل شىء تمام. بعدها، مع نهاية نفس العام (1988)، صدر كتيب من منظمة الصحة العالمية بشأن "الأوضاع الدوائية فى العالم"، وقد دل موقع مصر فيه على أنها بالنسبة لمجمل أوضاع السياسة الدوائية لا تأتى فى المقدمة إقليميا (كما كان الحال عليه فى الستينيات)، بل هى لا تسبق من البلدان العربية غير موريتانيا والصومال، بينما كانتا العراق والجزائر فى المقدمة فى جميع المؤشرات.

لم يحظ هذا التقرير، ولا التنبيه إليه باهتمام المسئولين.

***

من جانب آخر، كانت نشأة القطاع الخاص الدوائي فى السبعينيات والثمانينيات تشهد قدر من الانحرافات. من ذلك أن بعض الشركات الاستثمارية قد نشأت من "بطن" القطاع العام ذاته، مستفيدة إلى حد كبير بملفاته الدوائية، وبكوادره الفنية، وبقدر من أمواله. كما أن نشأة الشركات الخاصة والاستثمارية والأجنبية لم تأتى من منظور سياسى تكنولوجى يجعل منها إضافات تكنولوجية للشركات القائمة، بقدر ما كانت عبئا عليها، ومشاركا لها فى كعكة السوق الدوائية.

إضافة إلى ذلك، شهدت الصناعة الدوائية ترديات على غرار ما يلى.

.أخطاء في الفهم الإستراتيجى.  من ذلك، التصور بتطوير الصناعة الدوائية من خلال زيادة عدد المصانع بنفس نسبة الزيادة المتوقعة لعدد السكان، الأمر الذى يمكن قبوله فى صناعات بسيطة مثل صناعات الخبز والحلويات .. الخ، وليس فى صناعة الدواء والتى تعتمد أساسا على البحث العلمى والتطوير التكنولوجى العميق.

.عدم قبول رجال الصناعة للتحالف الاستراتيجي مع بعضهم ومع الحكومة من أجل توظيف البحث العلمى لتطوير إمكاناتها الإنتاجية.

فى هذا الخصوص أحبطت الصناعة محاولتين تاريخيتين، كانت الأولى عام 1994، وكان البنك الأهلى المصرى مبديا حماسة فى تولى مسئوليتها. كانت أهمية محاولة 1994 تتمثل فى كونها مدخلا للتحضير للتفاعل الإيجابي مع اتفاقية الملكية الفكرية (تريبس) والتى خضعنا لها بعدها بعشر سنوات.

وأما المحاولة الثانية فقد جرت عام 2013، برعاية حقيقية وكاملة من نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالى وقتها (الدكتور حسام عيسى) لقد كان رفض الصناعة للالتزام بالموضوع رفضا تاما.

.استمرار الوقوع بقصد (أو بدون قصد) فى براثن معايير خاطئة، بل وفاسدة، مثل بلوغ تغطية الإنتاج المحلى لقدر 93% من الاستهلاك، ومثل تجنب المقارنة مع المنافسين دوليا أو إقليميا (مثل صناعات الهند والأرجنتين والأردن والإمارات وإسرائيل).

.إفساد صحوة جزئية بخصوص محاولة تصنيع المواد الدوائية الخام. بدأت هذه المحاولة فى نهاية الثمانينيات من خلال تعاون شركة النصر للكيماويات الدوائية مع الباحثين فى الجامعات ومراكز البحوث.

لقد أدت هذه المحاولة لإنجاز التوصل إلى خامات دوائية بمواصفات عالمية (مثل: الأمبيسيللين – الريفامبيسين – الأموكسيسللين) وقد جرى الإفساد من خلال التحول إلى قطاع الأعمال العام.

***

أما بخصوص هدف وصول الدواء لمن يحتاجونه، فقد تراخت الحكومات -بشكل متدرج-  فى التخطيط العلمى لذلك. لقد زاد عدد المستحضرات المثيلة من 4 إلى حوالى 12، وزاد التباين فى أسعارها، ولم تدخل الحكومة بجدية إلى منهج الوصف فى الروشتات بالاسم العلمى للدواء (وليس بالاسم التجارى) لتجنب ضغوط بروباجندا بعض الشركات، فضلا عن غياب التطبيقات الحديثة لترشيد استخدام الأدوية.

لقد صدرت وثيقتان بمسمى "السياسة الوطنية للدواء" (عامى 2001 و2004)  فى عهد وزيرين مختلفين.

عمليًا، الوثيقتان كانتا كأن لم تكونا، حيث فى بنائهما ومحتوياتهما وصياغاتهما لم تعتمدا على منهج علمى مناسب. لقد افتقدتا للمؤشرات المعيارية ولم تشيرا إلى توصيفات للواقع ومشكلاته، ولا للترتيبات الخاصة بوصول الدواء إلى مستحقيه فى ظل مشكلات الواقع.

وهكذا، شهدت العقود الأربعة الماضية تراكما متزايدًا فى ضعف السياسات الدوائية، وفى المشكلات. ذلك بحيث وصلت مصر دوائيا إلى وضع كامن ومزمن ل "كش ملك".

لقد كشف هذا الوضع مؤخرا أن للشركات الأجنبية النصيب الأكبر من قيمة الاستهلاك المحلى حوالى 60%، بينما الباقى للصناعة الوطنية، خاص، واستثماري، وقطاع أعمال عام، حيث لا تتعدى حصة الأخير قدر 4%.

ما يمكن استنتاجه، والتأكيد عليه، من كل ما سبق ذكره، هو أن الدواء كسلعة وكصناعة شديد الحساسية للضعف والتلكؤ فى السياسات،, وللأخطاء فى الإدارة. إنها خاصية تجاهلتها الحكومات المتعاقبة، فكانت النتيجة ما يجرى حاليا من وضع "كش ملك" و "فوضى".

لقد حدث نمو غير ممنهج للقطاع الخاص الدوائى على حساب القطاع العام، ثم نمو مماثل للقطاع الأجنبي على حساب القطاعين الخاص والعام معًا، ولم تتولد أية استراتيجيات وطنية طويلة المدى للتطوير العلمى والتكنولوجى. ذلك برغم تحدى اتفاقية الملكية الفكرية، وبرغم فترة السماح التى كانت متاحة لنا (عشر سنوات من 1995 إلى 2005.)