بيروت أم دبي أم لندن.. ما المدينة الأجدر بالفوز بقلبي

منوعات
نشر
7 دقائق قراءة
تقرير دارين العمري
بيروت أم دبي أم لندن.. ما المدينة الأجدر بالفوز بقلبي
Credit: JOSEPH EID/AFP/Getty Images

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- صيف لندن مثل شتاء بيروت، وشتاء دبي مثل ربيع بيروت. هكذا تتماهى المدن، أو هكذا نحب أن نراها تفعل، حتى يبقى للمقارنة مكان.

نبحث عن شيء مشترك بين دبي وبيروت ولندن. قد نفشل..ولا ضير من الاعتراف بمحاولتنا العابثة.

في دبي الكثير من الثقافات، وجنسيات متعددة، هندية، باكستانية، ايرانية، عربية، أمريكية، أوروبية وآسيوية. ولكن في مدينة "الجنة الآمنة" بالنسبة إلى الكثير من الوافدين إليها هرباً من الموت الذي يترصدنا في بلادنا، قد نواجه صعوبة الإندماج مع ثقافات أخرى، وكأن كل مجموعة تلتف على ذاتها.. هنا، نشعر أننا غرباء نختبئ في قلب صدفة مع أشخاص يشبهونا. نرفض الخروج من قوقعتنا، ولا وقت متاحاً لدينا أصلاً لذلك. ننفصل عمداً عن المجموعات الأخرى، خوفا منها أو للتأكيد على هوية كل منا.. قد لا يكون ذلك بسبب طبيعة المدينة نفسها، بل بسبب انغماس الجميع في مشاغلهم وأعمالهم، فالمدينة ورشة كبيرة لا تتوقف.

ولكن في لندن، يوجد لاصق عجيب بين الثقافات. وكأن الجنسيات المتعددة ذاتها تجد مكاناً لها في المدينة. تحفر بأناملها في قلب الشوارع والأزقة الإنجليزية البحتة. تلبس ثوب المدينة التي لا تبخل عليها بالكثير من وجوهها. لندن ذكية.. كأنها تنزل إلى الشارع، تسلم بيدها على كل شخص وافد إليها. على أرض الملكة اليزابيث، يشعر الجميع بأنه في بلده، وكأن لندن تتحول إلى أم تحتضن أولادها ولا تفرق بين ما أنجبته من رحم المدينة، ومن أتى إليها وافداً، فتبنته.

وفي مدينتي، قد ترتسم علامة تعجب على وجوهنا إذا التقينا بباكستاني، أو هندي، أو أي وافد إلى المدينة من دول العالم الثالث، أو ما فوقها بقليل. تنبذ بيروت ما لا يشبهها سريعاً.. بيروت "فوقية".. ومن الصعب أن تتبنى أبناء ليسوا لها.. قلب بيروت صغير.

لا أخاف من المطر الذي يتساقط رذاذاً خفيفاً في لندن، أخرج إلى الشوارع، كأني أريد أن ألامس كل نقطة ماء تسقط من السماء. جميع من ألتقيه، يخبرني كم يحب بيروت.. بيروت "قصة" في مخيلتهم، ومكان للتفلت من كل الشوائب. بيروت "إكزوتيك" أي كأنها عربية وليس عربية، محافظة وليست محافظة، ملتحية وغير ملتحية، كأنها تحمل في طياتها كل شيء.

وقد تلتقي أمام إحدى المخابز البريطانية التي تشتهر بأطيب البسكويت الإنجليزي والشاي الملكي بعامل اسباني.. يخبرك بشغف أنه قرأ قصة عن بيروت، وتكاد قطرات من الريق تتساقط من بين شفتيه خلال حديثه عن عشقه للمدينة الشرق الأوسطية. ولكن، العامل الإسباني ذاته يشعر بخوف مريع من الذهاب إليها بسبب ما وصفه بـ"تمدد المتشددين الإسلاميين."

يذكرني الناس في شوارع "أكسفورد" و"كارنيبي" و"سوهو" في لندن، وهم يقفون فوق بعضهم البعض أمام الحانات لإحتساء البيرة بعد انتهاء دوام العمل، برغبة البيروتيين ذاتها عندما ينتشرون بين مقاهي وحانات شارع الحمراء، طمعاً بقليل من الطمأنينية في مدينة الموت الدائم.

وفي رحلة بنهر التايمز بلندن، تتعجب بأن الجسر المعروف بأغنيات الصغار بـ"لندن بريدج إز فولينغ داون" ليس الجسر الأجمل في البلاد، ولكنه قد يكون الأقدم. وفي البعيد يقف جسر "تاور بريدج" شامخا بلونيه الأزرق التركوازي والذهبي. جميع من في لندن، يعتبرونه الجسر الأجمل على الإطلاق، فيما يبدو هذا الجسر متواضعا، وكأنه وجد فقط ليذكر بتاريخ المدينة العريق.

على بعد أمتار قليلة يظهر برج "شارد" الأطول في أوروبا. يبدو البرج كأنه متفوق على المدينة، ولا يتماهي معها. يبدو هجيناً. مكانه ربما في دبي، وليس في لندن.

أما هنا، في المدينة "الكوزموبوليتنية" يبدو برج "خليفة" أو برج "العرب" متماهيا مع المدينة الجديدة والمتجددة، وفي بيروت، قد تحتار في البحث عن رمز المدينة، فتجد الإجابة أخيراً في "صخرة الروشة."

لا أعير انتباها إلى برج "شارد،" أنظر إلى ساعة "بيغ بين." كيف لا يصرخ المرء "أوه ماي لورد" باللكنة البريطانية، عندما يرى ساعة "بيغ بين" والتي تعتبر دقاتها رمزاً للتوقيت العالمي. أقف حاليا بالقرب من برج القديس استيفان في الجزء الشمالي من مبنى البرلمان في منطقة ويستمنستر في العاصمة البريطانية. وجل ما أشعر به أني أقف في منتصف الكرة الأرضية.. في محور العالم.. هنا تبدأ الحياة وتنتهي بالنسبة لي.

هنا في كنيسة ويستمنستر، تزوجت كيت والأمير تشارلز... تستعيد المشهد في ذاكرتك. الأميرة كيت، تقف على مدخل الكنيسة بثوبها الأبيض الرائع، تمد يدها إلى الأمير تشارلز. هنا، في هذه البقعة من الأرض تصبح الأحلام ممكنة. تتخيل أنك حضرت حفل الزفاف، بل كنت ضيف شرف في الحفل أيضاَ.

وفي بيروت، من الصعب أن تتماهى مع قصة حب حالمة. في مدينتي، الحلم ممنوع. وكل ما تفكر به، في طريقك للقاء الحبيب، إذا كان انفجاراً ما سيلاقيك عن طريق الصدفة.. والصدفة وحدها لديها القدرة على القتل في تلك الحالة. الصدفة مميتة في بيروت. 

لا تشبه دبي لندن برومانسيتها أيضاَ، فسرعة الحياة في "مدينة المستقبل،" تشبه الحركة الراكضة في أول الصباح وآخر الليل في محطات قطارات تحت الأرض في لندن.

أتذكر أمراً بالغ الأهمية.."الإنجليز" ليسوا شعباً بارداً كما اعتقدنا يوماً." هم شعب تدب فيه الحياة. أتذكر أيضاً.. الإنجليز ينفثون سجائرهم بشراهة كما يفعل اللبنانيين. تعجبني الفكرة. أجد أن لندن تشبهني أكثر. 

ولدت من رحم بيروت، أتيت إلى دبي هرباً من الموت في مدينتي، وزرت لندن مؤخراً. ثلاث مدن في عام واحد، ثلاث مدن متشابهة ومتنافرة إلى حد كبير. كثيرة على قلبي الصغير هذه المدن.

أشعر برغبة بسماع صوت فيروز في السيارة التي تجول بي في أزقة لندن الحالمة، و"أوتوسترادات" دبي الضخمة.

أتذكر أن شوارع لندن صغيرة مثل أزقة بيروت، وشوارع دبي كبيرة ضخمة لا تشبه إلا "أوتوستراد" المدينة "الكوزموبوليتينة."  

تغني فيروز في السيارة "احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي.. يا نسيم اللي مارق على الشجر مقابلي، عن أهلي حكاية، عن بيتي حكاية، عن جار الطفولة حكاية طويلة". تنبأت فيروز أن الكثير منا سيتركون بلدهم هربا إلى ملاذ آمن. كيف أحكيك يا فيروز عن بيروت. بلدي لم يعد فيه مكان للحكي. الشوارع الحزينة ستخبرك فقط عن ما آلت إليه أحوال مدينتي، التي ستجد دائماً مكانا كبيراً في قلبي الصغير.

  • دارين العمري
    دارين العمري
    محرر رئيسي للملفات المتخصصة
نشر