حوارات السيد نوح!

منوعات
نشر
7 دقائق قراءة
تقرير عمرو حمزاوي
حوارات السيد نوح!
Credit: ALI YUSSEF/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم  عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

الابن: أبي، هل تصبح الحياة رتيبة مع تقدم العمر؟

الأب: سؤال تصعب الإجابة عليه. لكن ما الذي دفعك إلى التفكير بأمر كهذا؟

الابن: أنت دفعتني إلى التفكير به. أراقب ما تقوم به، وأجد أن التفاصيل تتكرر باستمرار. تعمل، تكتب، تقرأ، تتحدث في هاتفك، تقضي وقتا معنا، نذهب معا إلى أماكن للتنزه والتسوق، تذكرنا بغسل أسناننا أكثر من مرة في اليوم الواحد، تحدد لنا أوقات ثابتة للقراءة ولاستخدام الأجهزة الإلكترونية. أنت تفعل كل هذا دوما ودون تغيير منذ سنوات. أليس بذلك رتابة؟ هل مازلت تستمتع بحياتك؟

الأب: أنت محق يا حبيبي. تفاصيل الحياة تتكرر باستمرار، واختبرتها جميعا أكثر من مرة. تتغير قضايا العمل، تتبدل الأمور التي أكتب عنها والكتب التي أقرأها، تتنوع الأماكن التي نذهب إليها، تختلف الموضوعات التي أتكلم عنها معك ومع أخوتك. غير أن العمل والكتابة والقراءة والاهتمام بشؤونكم وتفاصيل أخرى ثابتة لا تتحول.

أنت محق أيضا في مسألة الرتابة. وأصارحك، في كثير من الأحيان لا أريد توجيهك إلى القراءة، ولا أرغب لا في التدخل في استخدامك للأجهزة الإلكترونية ولا في تحديد أوقاتها، وأشعر بملل شديد بسبب مراقبتي المتكررة لسلوكك وسلوك أخوتك في حياتنا اليومية وتوجيهاتي التي أعلم أنها لا تتأخر من غسل الأسنان إلى الواجبات المدرسية. غير أن مسؤوليتي كأب تلزمني بهذا إلى أن تستقل بحياتك. تلزمني مسؤوليتي بتحمل الرتابة لكي تستقر حياتك وحياة أخوتك، وأجتهد لعدم المبالغة في التوجيه، وفي الاستماع لتفضيلاتكم، وفي التجديد كلما استطعنا معا.

ألم تعجبك فكرة العطلة الأخيرة في بيت على جزيرة في أسوان، بعيدا عن كل شيء؟

الابن: أعجبتني يا أبي. لكن لماذا لا تفعل المزيد لكسر رتابة حياتك؟ بالنسبة لي، غالبية الأمور مازالت جديدة، بما في ذلك التحايل على توجيهاتك بشأن غسل الأسنان أكثر من مرة ولمدة ثلاث دقائق وبشأن تحديد وقت استخدام الأجهزة الإلكترونية. وفي المدرسة، نتداول دائما خطط التحايل الجديدة، فالأمهات والآباء سواء.

الأب: حقا؟

الابن: نعم، حقا. وتستطيع أن تهدأ، فأنا لا أطبق جميع خطط وأساليب التحايل عليك. فقط أريد أن أفهم، لماذا لا تكسر رتابة حياتك، مثلا بيوم أو أيام تتوقف بها عن الكتابة والقراءة وتستمع ربما للموسيقى فقط أو بمشاهدة الأفلام أو بممارسة الرياضة؟ لماذا لا تكسر رتابة حياتك بيوم أو أيام لا توجيهات بها؟

الأب: هل أبدو لك تعيسا إلى هذا الحد؟ أم تريد فقط الأيام الخالية من التوجيهات؟

الابن: لا أعرف يا أبي. فقط أقارن بين سنواتك الكثيرة وسنواتي القليلة.

الأب: أسئلتك هذه المرة تصعب جدا الإجابة عليها. تعلم، لم يسألني قريب أو بعيد عن مدى استمتاعي بحياتي أو عن معاناتي من الرتابة. أشكرك يا حبيبي على كل هذا الاهتمام.

سنواتي الكثيرة، 47 كما تعلم، وسنواتك القليلة، ها أنت تقترب من التاسعة، ربما تربط بينهم أمور أخرى تجعل توقعك الرتابة مع تقدم العمر أقل حدة.

نعم يتكرر العمل، وتتكرر الكتابة والقراءة والأسفار، وتتكرر تحديات وأزمات الحياة، ومهما تفاوتت التفاصيل واختلفت الحظوظ من النجاح أو الفشل يستحيل التغلب على الرتابة التي بت أشعر بها حقا.

نعم، مرت علي سنوات كان يحمل بها كل يوم جديد أمرا شيقا، من تنظيم الحياة في بلاد بعيدة عن وطني إلى أسفار نقلتني إلى أماكن وخبرات إنسانية لم أكن قد تعرفت عليها من قبل.

نعم، مرت علي سنوات تنوعت بها علاقات الصداقة والزمالة والحب التي ربطت بيني وبين آخرين، وبنت شخصيتي أكثر من أي شيء آخر.

نعم، مرت علي سنوات لم يحتويني بها الحزن كما شعرت بعد وفاة جدتك، وكان حبي لحياتي ورغبتي في الاستمتاع بها والانفتاح على خبرات جديدة لا حدود لهم جميعا.

ثم بدأت الرتابة بالفعل تتسرب إلى حياتي وتستولي على أيامي، وبدأت مشاعر الحزن ومشاعر القلق والخوف تسيطر علي، بل وتحولت هذه المشاعر تدريجيا وعلى الرغم من قسوتها وبسبب تكررها إلى عنصر من عناصر الرتابة التي تسأل عنها.

إلا أن سنواتك القليلة أنت، وسنوات أخوتك، هي التي تنقذني من الرتابة. أنتم تحملون لي دائما التفاصيل الجديدة. أنتم كل يوم في تطور، كل يوم مع مهارات جديدة تكتسبوها، كل يوم مع أفكار جديدة تأتون بها إلينا من المدرسة ومن أماكن أخرى - أليست هذه هي المرة الأولى التي تسألني بها عن مسألة رتابة الحياة؟ أليست هذه هي المرة الأولى التي تصارحني فيها بخطط التحايل يا سيد نوح؟

الابن: إذن اتفقنا، سأحمل لك من المدرسة ومن خلال أصدقائي شيئا جديدا كل يوم. وعليك تحمل خطط التحايل، فنحن لدينا خطط جيدة جدا.

لكن، أبي، أحد أصدقائي في المدرسة أخبرني أن والدته تركته وتركت الأسرة وذهبت إلى الهند البعيدة بسبب رتابة حياتها. هل تفكر أنت أيضا في أمر كهذا؟

الأب: ألهذا تسأل يا حبيبي؟

الابن: ربما. ولأن أخي لؤي يقول أنك تحب السفر كثيرا وتحب الانتقال بين البلاد.

الأب: عن نفسي، لن أبتعد عنكم أبدا. لكن أتفهم ربما أسباب رحيل والدة صديقك إلى الهند البعيدة كما تقول. احيانا، مع. مرور السنوات، يعاني بعض الناس بشدة من رتابة الحياة ويفقدون الرغبة الإنسانية جدا في البقاء بالقرب من أولادهم ويفقدون الاهتمام بالعمل وبالتفاصيل الأخرى، وقد يتمنون الرحيل عن الدنيا. هنا، يكون أفضل لهم الابتعاد عن حياتهم وعن أولادهم لفترة بحثا عن طاقة جديدة وإيجابية للعودة إليهم.

وجيلي، نحن الذين تجاوزنا الأربعين كوالدة صديقك وكأبيك، يحلم دائما بالذهاب إلى البلاد البعيدة الغريبة، والهند تأتي على رأس قائمة هذه البلاد مثل البرازيل والأرجنتين وأحيانا إفريقيا. أتمنى أن تعود والدة صديقك قريبا إليه وإلى أسرتها، فالأمر بالتأكيد صعب عليهم جميعا.

الابن: شكرا يا أبي. أنت في جميع الأحوال تعيش في إفريقيا، أليس كذلك؟ إذن، أنت لا تحتاج إلى الارتحال بعيدا. لتبقى في مصر، وتبقى حياتنا بينها وبين ألمانيا كما نحن. ممكن يا أبي؟

الأب: أكيد يا حبيبي.

  • عمرو حمزاوي
    أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
نشر