بعد تصريح وزير العدل المصري حول "حبس النبي".. أكرم السيسي يكتب عن تطور الأحكام القضائية في "ازدراء الأديان"

منوعات
نشر
7 دقائق قراءة
تقرير أكرم السيسي
بعد تصريح وزير العدل المصري حول "حبس النبي".. أكرم السيسي يكتب عن تطور الأحكام القضائية في "ازدراء الأديان"
Credit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم أكرم السيسي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أن الآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

استُبدلت دعوى "الحسبة" بقانون "ازدراء الأديان"، الأولي هي المطالبة بحق من حقوق الله تم الإعتداء عليه، والثانية هي معاقبة من يحاول السخرية من الأديان، تغير في المسمي دون المضمون، والهدف واحد: معاقبة الفكر والبحث العلمي.

شهد القرن العشرون قضيتي حسبة تدين أستاذين في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، الأولى في بداية النصف الأول من القرن والثانية في نهاية النصف الثاني.

كانت الأولى بلاغ للنائب العام (30 مايو 1926) ضد طه حسين على كتابه "الشعر الجاهلي"، وقد تضمن البلاغ أربعة اتهامات:

الأول: أن المؤلف أنكر ما جاء في القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل بقوله "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي...".

الثاني: إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة عندما اعتبر القراءات السبع غير منزلة من عند الله.

الثالث: التعريض بنسب النبي (صلى الله عليه وسلم) بعدم اعتبار قريش وبني هاشم صفوة العرب، وإنكار أن العرب هي صفوة الإنسانية.

الرابع: إنكار أن للإسلام أولوية في بلاد العرب باعتباره امتدادا لدين إبراهيم.

كان المقصود من هذه الاتهامات تكفير طه حسين، ولكن النائب العام "محمد نور" كانت أولى تعليقاته أن "العبارات جاءت في كتاب في سياق الكلام على موضوعات (...) فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة". (راجع قرار النيابة في كتاب الشعر الجاهلي – مطبعة الشباب).

واستمر النائب العام عشرة أشهر للبحث والاستجواب حتى وصل إلى قراره بحفظ البلاغ (30 مارس 1927)، وقد استند إلى قانون العقوبات (المادة 139) الذى يشترط توفر أربعة أركان لإثبات الإدانة: 1- التعدي، 2- وقوع التعدي بأحد الطرق العلنية، 3- وقوع التعدي على أحد الأديان، 4- القصد الجنائي.

برأ النائب العام ساحة الباحث بناء على أمرين، أولهما إنكاره في التحقيقات طعنه على الدين الإسلامي، وأن ما ذكره هو في سبيل البحث العلمي لا غير، كما أقر بأنه مسلم ومصدق بكل ما جاء في القرآن الكريم، وثانيهما مقال "العلم والدين" لطه حسين بجريدة السياسة الأسبوعية (19 يوليو 1926) أوضح فيه أنه اتبع منهجية الشك وعدم التسليم بأي معلومة إلا بعد البحث العلمي الذي يقود إلى التصديق.

وقد افترض طه حسين –في مقالته- أن لكل امرئ شخصيتين متباينتين، "أحدهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل (...) والأخرى تشعر وتتألم وتفرح (...) في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وتلك الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا نستطيع أن نخلص من إحداهما، فما الذي يمنع أن تكون الأولى عالمة باحثة وأن تكون الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى".

ورغم أن النائب العام أقر بتوافر الأركان الثلاثة الأولي –سابقة الذكر-، إلا أنه لم يجد للقصد الجنائي موضعا، فضلا عن أنه لم يقتنع بنظرية الشخصيتين لكل امرئ، لأنه لا يمكن الجمع بين النقيضين في شخص واحد، كما أنه أفصح عن عدم "إدراكه (لإدعاء الدكتور) بأن العلم من اختصاص القوة العاقلة والدين من اختصاص القوة الشاعرة"، واقتناعه بأن "العقل هو الأساس في العلم والدين معا، وأنه إذا وجدنا العلم والدين يتنازعان فهذا بسبب أننا ليس لدينا القدر الكافي من كل منهما، وهذا ما نعرفه في أنفسنا، أما إذا كان الدكتور لديه القدرة على ما يقول فليس ذلك على الله بعسير".

وما هو جدير بالذكر، أن النائب العام لم يفته أن يُحي الجانب العلمي والبحثي فذكر "أن للمؤلف فضلا لا يُنكر فى سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء الغربيين"!

***

وأما القضية الثانية تخص مجموعة أبحاث تقدم بها نصر حامد أبو زيد للترقية لدرجة "أستاذ" (1995)، إعترض عليها أحد أعضاء لجنة الترقيات، الأمر الوارد حدوثه مع أي شخص، ولكنه لم يحترم سرية التقارير طبقا للقوانين، وراح ينشر على العامة في المساجد ووسائل الإعلام نقده للأبحاث واعتبرها مخالفة لعلوم الدين على الرغم من أن الباحث أكد أنها تأويلات يمكن أن تكون خاطئة.

وانتهز التيار الديني الفرصة فأقام دعوى تفريق بين الباحث وزوجته الأستاذة الجامعية ابتهال يونس، وصرح نصر أبو زيد في جميع وسائل الإعلام إيمانه بوحدانية الله وبالكتب السماوية جميعا وبكل الأنبياء والرسل، ولكن الزمن قد تغير، فلم يُتقبل منه كما تُقبِل من طه حسين، وحُكم عليه بالتفريق بينه وبين زوجته باعتباره كافرا، وكان هذا الحكم هو الأول من نوعه في تاريخ القضاء المصري.

مر ما بين براءة طه حسين وتكفير نصر أبو زيد 68 عاما، فكان حكم البراءة الذي حَيا العلم دالا على عصر ليبرالي كان فيه الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، وتميز بسعة الأفق، والتسامح، والمهنية، والتعليم المتميز الذي أفرز لنا العباقرة: مصطفي مشرفة، أنور المفتي، النحاس، طه حسين، العقاد، أحمد شوقي، الحكيم، نجيب محفوظ، عبد الوهاب، أم كلثوم، اسماعيل ياسين، الريحاني، فاتن حمامة ...ألخ.

بينما كان حكم التفريق كاشفا عن عصر للظلام سيطر عليه التيار الدينى، وتَقابل الفكر والإبداع بالعنف (مقتل فرج فودة والاعتداء علي نجيب محفوظ)، وحرية التعبير بازدراء الأديان وبالسجن (فاطمة ناعوم)، فتميز بضيق الأفق والتعصب وخلط الدين بالسياسة، وبأحكام قضائية أعادت لنا محاكم التفتيش، وتعليم سيء أفرز لنا دعاة ينشرون الجهل والعنف.

وعجبا لمجتمع لا يغفر لوزير عدل زلة لسان إعتذر عنها مرارا، والأدهى أن يقيم "مستشارا" مصريا مقيما بالسعودية دعوى للمطالبة بإعدام الوزير السابق! وفي المقابل يتجاوز عن تصريحات له تطالب بمعاقبة والدَي الإرهابي، ويتمني إعدام المئات من الجماعات المتطرفة!

وإذ ننتهز هذه الفرصة لنهيب بشباب القضاة أن يقتضوا بمشايخهم أمثال السنهوري ومحمد نور، وهذا ليس تشكيكا في ضمائرهم –ولهم كل الاحترام والتقدير- ولكنه إدانة لثقافة ظلامية سادت المجتمع وكل مؤسسات الدولة فلم ينجو منها القضاء.