غيث عبدالله يكتب: لماذا من الأفضل تصميم النصب التذكاري الوطني الخليجي من قبل مصمم خليجي؟

منوعات
نشر
9 دقائق قراءة
غيث عبدالله يكتب: لماذا من الأفضل تصميم النصب التذكاري الوطني الخليجي من قبل مصمم خليجي؟
نموذج من متحف اللوفر في العاصمة الإماراتية أبوظبيCredit: KARIM SAHIB/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم غيث عبدالله، كاتب من الامارات وطالب دكتوراه علاقات دولية في جامعة دورهام في بريطانيا يعد اطروحة حول الهوية الخليجية بين الشباب بدول مجلس التعاون، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظره ولا تعبر بالضرورة عن وجهة رأي CNN.

البحث عن المواهب العالمية مبدأ شائع القبول في زمن العولمة الذي نعيش فيه الآن، ولا يعني بأي حال من الأحوال إهمال المبدع الخليجي المحلي. وليس من الخطأ الاستعانة أو القبول بمشاركة معماريين أو فنانين أو مصممين عالميين لتصميم المعالم الوطنية، سواء أخذ ذلك الصرح شكل حديقة وطنية أو متحف أو مطار أو نصب تذكاري، إذ يضفي سعي البلدان لاجتذاب المواهب العالمية طابعا من الأهمية - وربما الهيبة عليها - بذات القدر الذي تولده هجرة المواهب المحلية وتنافسها في الأسواق العالمية.

إلا أن وجهة نظري تكمن في حقيقة أن الواقع الخليجي هو أكثر تعقيداً من ذلك، إذ تقوم دول الخليج الست بالتأكيد على دعم المواهب المحلية واعطائها الأولية والأفضلية، خاصة في ظل الجدل حول تحوّل المواطن إلى أقلية وتزايد تباعات ومترتبات الخلل السكاني.

ينص حجر الزاوية في خطط التنمية الاقتصادية لدول الخليج العربي على "تنمية المواهب الوطنية". ولذلك، كانت ملفتا للانتباه أن يستقر الرأي على تصميم نصب لتخليد ذكرى الشهداء من قبل مصمم أجنبي، الذي حصل عمله على الاستحسان. إن دول الخليج تركز تركيزاً شديداً في خطابها على تعزيز اقتصاد المعرفة، وتشجيع الشباب وغيرهم من المواهب المحلية والطبقة المبدعة الشابة، فكيف يستقيم كل ذلك مع اختيار تصميم فنانين عالميين لـ"النصب التذكاري الوطني للشهداء"؟ هل يساهم ذلك في دعم المواهب الوطنية الواعدة في الخليج أم أنه يعيقها؟ وهل أُخذ بعين الاعتبار إن كانت الاستعانة بالمبدع الاجنبي قد تؤثر سلبا على المبدع الخليجي وتعيق بروز المواهب المحلية التي يجب أن تعطى الأولية عند تصميم وتنفيذ أي معلم تذكاري وطني؟

يشكل احتضان المواهب الشابة ودعم الطبقة المبدعة المحلية ورعاية الطاقات الشابة أحد أهم مرتكزات بروز اقتصاد المعرفة وتحقيق القيمية المضافة لاقتصاد ما بعد النفط، الذي هو أحد أهم أهداف استراتيجية تنويع الاقتصاد في دول الخليج. بل إن رعاية المواهب المحلية ودعمها هو أحد سبل تخفيف المشاكل الناجمة عن الخلل الديموغرافي المزمن في دول الخليج بتداعياته الاجتماعية والاقتصادية العميقة. لا يمكن تخيل مواجهة هذه التداعيات دون التفكير في حل للخلل السكاني، في ظل اللجوء الدائم إلى الخارج والاستعانة بمواهب عالمية لتصميم نصب تذكاري وطني. إن مسالة بهذه الأهمية الوطنية والرمزية يجب ألا تُترك لمصمم عالمي مهما كان مبدعا ومشهورا ومقتدرا.

لقد اخذ البعض يستسهل اللجوء إلى الخارج في ظل وجود عدد قليل جداً من المواهب المحلية (في جميع المجالات التي لك أن تتخيلها تقريبا)، لكن ذلك هو أبرز تبرير للهروب إلى السوق العالمية بحجة قلة المواهب المحلية. بل إن هذا هو التبرير على الأقل جزئيا لاعتماد الاقتصاد الخليجي على المؤسسات الغربية للاستشارات والهندسة والمحاماة والصيرفة والاستثمار والتصميم وغيرها من المجالات بشكل كبير. وهنا أدعوك لتصوّر هذا المشهد: إسقاط جيوش من المستشارين طويلي القامة من ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء والبدلات الباهظة الثمن عن طريق المظلات في بيئة صحراوية لا يمكنه خلق بيئة وتنمية وطنية مستدامة، بل سيزيد من الاعتماد على الخارج ويجعل البيئة الصحراوية أكثر تصحرا.

صحيح أن هنالك الكثير من العمل للقيام به، وعدد قليل من الخليجيين المؤهلين للقيام بالعمل في ظل اقتصاد خليجي معولم وفي ظل بروز قطاع خاص خليجي تقتصر نسبة المواطنين فيه على 1 في المائة من القوى العاملة كما هو الحال بالنسبة لوضع القطاع الخاص في إمارة دبي (التي تعرف بانها نيويورك الاقتصاد الخليجي ومنارته المضيئة) والمدينة الخليجية القدوة للاقتصاد الخليجي.

لم تتوصل دول الخليج بعد إلى أفضل وأنسب الطرق لتنمية المواهب المحلية، إلا أن حكومات هذه الدول تؤمن بأن السبيل لتحقيق ازدهار المنطقة الاقتصادي في المستقبل هو من خلال تطوير اقتصاد المعرفة المستدام. وترى هذه الحكومات أن رعاية المواهب المحلية الشابة هو المفتاح لنجاح الاقتصاد القائم على المعرفة، رغم أن خططها وبرامجها لا تصب في سياق تحقيق هذه الأهداف النبيلة في كثير من الأحيان.

يكمن جوهر معضلة نموذج التنمية الخليجي في الانفصال ما بين الطموح المعاصر والمشروع والموارد البشرية المحدودة والابقاء على المؤسسات القديمة. لا يمكن خلق تنمية مستدامة بدون مؤسسات حديثة ومستدامة. كما تكمن المعضلة أيضا في محاولة تحقيق الكثير في فترة زمنية قصيرة وباستخدام عدد قليل جدا من الأفراد. علاوة على ذلك لا يمكن أن يتحقق شرط التنمية المستدامة واستمرار نجاح الاقتصاد الخليجي بالاعتماد الكلي على المواهب الدولية غير المستقرة التي لا تحقق شرط التراكم المعرفي. المواهب الخارجية تأتي وتذهب ولا تترك المعرفة بل تهاجر المعرفة معها. كيف إذا يمكن خلق اقتصاد المعرفة في ظل عدم تحقق التراكم المعرفي الذي لا يمكن أن يتم إلا في ظل الاعتماد على المواهب الخليجية المبدعة والخلاقة؟

كذلك تواجه نموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية الخليجية معضلات كثرة أخرى لا بد من معالجتها، مثل: ساعات العمل وكيف يمكن أن يكون يوم العمل أكثر إبداعا وإنتاجا، والحاجة إلى نظام تعليمي نوعي ومبدع، وتمكين المرأة والمساواة الحقيقية بين الجنسين ليس في مجال العمل بل في المنزل، وقضايا أخرى مثل التكنولوجيا وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية وخلق نماذج مبدعة خليجية تنافس على الصعيد العالمي.

يتعلق تشجيع المواهب كثيراً بتوفير الإلهام، ولك أن تتخيل كمّ الإلهام الذي كان ليحصل لو علمت الفئة المبدعة من الخليجيين الشباب بتصميم معماري خليجي لمتحف اللوفر في أبو ظبي، أو كم الإلهام الذي كان ليحصل لو بُني أطول برج في العالم في دبي بتصميم خليجي. وفي المقابل لك أن تتخيل حجم الاحباط الذي أصاب الطبقة المبدعة الاماراتية والخليجية من جراء اختيار تصميم فنان أجنبي لـ"نصب الشهداء" في الامارات. هذا الاختيار بقدر ما أثار تساؤلات بعث في النفس الكثير من الإحباط.

دول الخليج تستعين بأكبر الأسماء الاستشارية الغربية لوضع رؤى مستقبلية وحل مشاكل هيكلية، ولا شك ان شركات الاستشارات العالمية تقوم بعملها بإتقان. لكن ما يحدث على أرض المواقع محير وغير مفيد على المدى البعيد. فمن خلال الاستعانة بهذه الشركات يتم الاستحواذ على البيانات والمعلومات والمهارات المتراكمة من هذه العملية، أي أن المعرفة الحقيقية والقيمة الجوهرية المضافة للاقتصاد تبقى في حوزة هذه الشركات بدلا من أن تبقى محليا وتساهم في نمو وتنمية وبناء اقتصاد المعرفة. من المحبط إدراك أن الأموال الخليجية تمول اقتصادات المعرفة الغربية بدلا من استثمارها محليا.

لذلك نعود لطرح السؤال: لماذا اللجوء لمصمم عالمي لتصميم النصب التذكاري الوطني الخليجي وليس لمصمم خليجي؟ هل يدرك القائمون على هذه المبادرات وغيرها قدر الخسارة المعرفية المترتبة على هذا الاختيار؟ وهل يدركون حقا مترتباته على بناء اقتصاد المعرفة الوطني؟ وهل فكروا ولو للحظة واحدة في المترتبات المعرفة العميقة، ومقدار الرضا الشعبي والمجتمعي - خاصة الشباب - والفائدة الإبداعية العظيمة لو كان مصمم هذا النصب مبدع محلي أو خليجي؟