رأي.. طارق عثمان يكتب لـCNN: الملكية المصرية وناصر والعالم العربي.. عبدالناصر وبريطانيا (9)

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
رأي طارق عثمان
صورة تجمع جمال عبد الناصر مع رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن في القاهرة عام 1955
Credit: Central Press/Hulton Archive/Getty Images

في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
المقال السابق في هذه السلسلة كان عن حتمية الخلاف بين المشروع الناصري والملكيات العربية بشكل عام، بصرف النظر عن التفاصيل في العلاقة بين مصر في مراحل عهد عبد الناصر وبين الملكيات العربية المختلفة، وعن المشاعر الشخصية والنيات.

لكن علاقة المشروع الناصري بالغرب اختلفت باختلاف الدول. وقد كان هناك عدد من العلاقات التي شَكلت موقع المشروع الناصري في الرؤية الغربية والعكس.

العلاقة الأولى كانت مع بريطانيا. على عكس أغلب التصورات، فإن العلاقة مع بريطانيا بدأت بشكل جيد، لسببين. الأول هو أن بريطانيا لم تقف في مواجهة حركة الجيش التي أنهت عصر أسرة محمد علي وبدأت العصر الجمهوري في مصر واقعيًا تحت حكم جمال عبد الناصر. والمؤكد أن بريطانيا كان تحت تصرفها في يوليو ١٩٥٢في قاعدة قناة السويس قوات تتيح لها، وبسهولة، إفشال حركة الجيش. لكن حسابات بريطانية (والكثير منها داخلي، وإن كان هناك أيضًا قدر من التنسيق مع الولايات المتحدة الاميركية) جعلت بريطانيا تنظر ولا تتدخل. وهذا في حد ذاته أعطى فرصة حوار بين السلطة الجديدة وقتها في القاهرة ولندن.

ما ساعد العلاقة أيضًا أنه في السنتين الأولتين من وصول عبدالناصر إلى الحكم في مصر لم يكن هناك مشروع ناصري. وإن كانت هناك طموحات عامة عن تحرر من الوجود الغربي في كل العالم الناطق بالعربية، فذلك كان لا يزال بعيدًا عن كونه خطط أو تحركات جادة خارج مصر. تركيز السلطة الجديدة وقتها (مجلس الضباط الأحرار) كان على استقلال مصر، وهذا جعل العلاقة مع بريطانيا ذات أولوية قصوى.

لكن الاشتباك جاء من عدة عوامل:

الأول أن بريطانيا - وإن قبلت فكريًا بأن وجودها العسكري في مصر، حتى في قاعدة قناة السويس لابد أن يتغير في شكله وحجمه - إلا أنها لم تقبل البرنامج الزمني شديد السرعة الذي طالبت به السلطات المصرية. والذي حدث أن بريطانيا - وهي وقتها داخليًا في صراع شديد بين الحزبين الكبيرين (المحافظين والعمال) على مستقبل الامبراطورية - وجدت أن ناسها وخزينتها ليسوا على استعداد لمواجهات خارجية تحمل مخاطرات.

العامل الثاني، وهو غالبًا أهم، كان أن الولايات المتحدة الأميركية وضعت ضغوطًا على بريطانيا من أجل سياسات متفتحة في كل الشرق الأوسط بما فيه مصر. ووقتها كانت بريطانيا قد وصلت الى قناعة بأنه لابد لها من تنسيق سياساتها الكبرى مع الولايات المتحدة، وأن العوائد على ذلك أكبر من التكاليف.

مع هذين العاملين كان أن بريطانيا تصورت أنه يمكن الوصول مع مصر إلى اتفاق يمدد من زمن السلطة البريطانية على قناة السويس أبعد من نهايات الستينات، عندما كان من المفروض تسليم القناة إلى السلطات المصرية (مثل حال هونج كونج مع الصين). لكن المفاوضات تعثرت، بشكل رئيسي لأن بريطانيا وجدت صلابة من نوع جديد في الموقف المصري، وقد ظهرت تلك الصلابة تحديدًا في النقاط التفصيلية.

مع كل ذلك، كان هناك عامل شخصي في العلاقة البريطانية-المصرية بدا بوضوح في منتصف الخمسينات، وهو نفور أنتوني إيدن - رئيس وزراء بريطانيا - الشديد من جمال عبدالناصر. وقد كان عبدالناصر يمثل كل ما رآه إيدن من مشاكل في التغيرات التي كانت تجري وقتها في النظام العالمي بأسره. ذلك أن إيدن مَثَلَ الامبراطورية البريطانية في تفكيرها التقليدي وفي طرق تعاملها عندما كانت تسود العالم. لكن الزمان في الخمسينات كان قد اختلف، و كانت شمس الامبراطورية عند المغيب، ولكن بعض رجالها كانوا مازالوا متأثرين بأساليب عمل أسلافهم في القرنين الثامن والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

أزمة السويس (وقد تحدثت هذه السلسلة عنها بالتفصيل من قبل) أنهت العلاقة البريطانية-المصرية في ذلك الزمان، ولكنها لم تُنه الاشتباك. فبالرغم من – أو لعلها بسبب - النجاح المصري المهول في السويس، فإن سنوات ما بعد تلك الأزمة شهدت مناورات مصرية-بريطانية مختلفة، كلها غير مباشرة، ولكن كلها نابع من مشروعين متناقضين.

في الصراع على اليمن بعد حركة الجيش هناك ضد نظام الإمام الديني الملكي، وفي منطقة الخليج وهي وقتها في بدايات ظهورها كمركز رئيسي في العالم للبترول (وهو وقتها في أول عصره كالطاقة الرئيسية في العالم)، كما في العراق (وهو طيلة الفترة بين الحرب العالمية الأولى والثانية منطقة نفوذ بريطاني صرف)، كان المشروع الناصري يسعى لتوسيع تواجده وتقوية المقتنعين به والموالين له، ويحاول ضرب مصالح الوجود الغربي، وأهمها وقتها المصالح البريطانية. وفي المقابل - بعد السويس، وفي كل تلك المناطق - عملت بريطانيا على تقليص المد الناصري، وقد رأت فيه مهاجمًا شديدًا ضد محاولتها وقتها نسج أنواع جديدة من المصالح في مرحلة ما بعد الامبراطورية.

اليمن كان حلقة مهمة، لأنه بالرغم من وجود أمريكي مهم وقتها هناك - كان الأول في اقترابه مع صراع على أرض عربية، وكان بشكل رئيسي من خلال وكالة المخابرات المركزية، وهي بعد في مراحل بناء وجودها الجاد في كل الشرق الأوسط والجزيرة العربية وشمال أفريقيا - فإن امريكا كانت مراقبة، لا تتدخل بشكل مؤثر. بريطانيا هي التي لعبت دورًا كبيرًا في الصراع المصري-السعودي هناك (وقد تحدثنا عنه في المقال السابق في هذه السلسلة). كانت هناك وقتها مصالح بريطانية-سعودية تُنسج في إطار جديد. لكن جزءًا مهمًا من الهدف الاستراتيجي للعمل البريطاني في اليمن كان منع نجاح آخر للمشروع الناصري بعد ذلك الذي تحقق في السويس.

مع اليمن، كان هناك صراع بريطاني-مصري آخر غير مباشر في العراق، كما حول مستقبل الأردن. لكن في العراق بالذات - وهو وقتها دولة ذات امكانيات كبرى - كانت بريطانيا شديدة القرب من النظام الملكي الهاشمي، ثم بعد وقوعه كانت قريبة من مجموعات من الضباط الذين وصلوا للحكم هناك. في المقابل كان المشروع الناصري مرجعًا لمجموعة أخرى من الضباط أرادوا السيطرة على العراق وفي طموحاتهم ادخاله في تيار القومية العربية تحت قيادة جمال عبد الناصر. وكما كان الحال في اليمن، كانت المواجهة في العراق غير مباشرة، وأحيانًا كثيرة من خلال العمل السري.

ولأن الأدوار البريطانية - في اليمن والعراق وغيرهما - كانت واضحة، فإن النظام الناصري رأى وتابع ووصل إلى قناعة أن بريطانيا، حتى بعد ابتعادها عن قناة السويس وانتهاء وجودها العسكري في مصر، مازالت قوة مواجهة لا مجال لحلول وسط معها.

والملفت أنه حتى بعيدًا عن أطر الصراع السياسي والمصالح الاستراتيجية كان النفور من عبدالناصر قد انتقل من أنتوني إيدن ومن كانوا حوله إلى كثيرين جاءوا بعده إلى دوائر نفوذ مختلفة في لندن - والسبب أن لندن وقتها (طيلة الستينات) كانت قبلة ومحل كثيرين رأوا في المشروع الناصري عدوا أو مشكلة أو كارثة. كان أول هؤلاء العديد من رجال سلطة ومال في العهد الملكي في مصر، والعديد من المفكرين المصريين الذين خرجوا من مصر هاربين من التضييق السياسي الذي مارسه النظام الناصري، إلى نافذين في الجزيرة العربية والخليج كانوا وقتها في خضم ذلك الصراع المكتوم مع المشروع الناصري (الذي تحدثنا عنه في المقال السابق).

النتيجة أن القاهرة ولندن أصبحتا من منتصف الخمسينات ولأكثر من عقد من الزمان – وهو الوقت الفاعل للمشروع الناصري - على طرفي نقيض في كل الملفات السياسية المهمة في المنطقة تقريبًا.

وكان من نتائج ذلك تأثيرات أبعد من الشرق الأوسط وكل العالم العربي، تأثيرات وصلت الى الشواطئ الغربية للمحيط الاطلنطي حيث كان لها تأثير كبير في رؤية الولايات المتحدة الأميركية للمشروع الناصري، وذلك موضوعنا في المقال القادم من هذه السلسلة.