تجربة ديمقراطية!

الشرق الأوسط
نشر
6 دقائق قراءة
تقرير عادل المالكي
تجربة ديمقراطية!
Credit: FAYEZ NURELDINE/AFP/Getty Images

 يقول عبدالرحمن الكواكبي: "إن الحكومة، من أي نوع كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد، ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة، والمحاسبة التي لا تسامح فيها." هذا الأمر يعني أن القائد على جميع الأصعدة سواء مدير منتدى أو قائد مشروع تطوعي أو رئيس حكومة، مهما كان ذلك القائد جيداً، فإن انعدام الرقابة عليه ومحاسبته ستسهم بلا شك في ميله للاستبداد.

وكتجربة على نطاق مصغر، اشتركت منذ فترة في مشروع فكري تطوعي كان يهدف لتوعية المجتمع والرقي به و... وكل تلك الأفكار البرّاقة، حيث اتفق 60 شخصاً من شباب وشابات من مستخدمي تويتر في السعودية، أن يعملوا على بلورة أهداف أخلاقية وثقافية جميلة دعوا لها عبر أحد الوسوم (الهاشتاقات). كانت البداية مشجعة جداً والجميع يريدون تحقيق شيء من هذا المشروع الذي سيتضمن حملات توعوية وبرامج على يوتيوب وسلسلة مقالات ونقاشات وغير ذلك، وزاد بهاء المشروع اختلاف التوجهات الفكرية والمذهبية للأعضاء. الجميع مختلفون لكنهم يتفقون على مبادئ نبيلة تدعو للمساواة والعدل وحرية الرأي وحب الوطن وتصويب أخطاء المجتمع السعودي.

منذ البداية، انتهج الجميع مساراً ديمقراطياً في تكوين مجلس إدارة المشروع، وتم انتخاب رئيس ذو صلاحيات محددة لإدارة المشروع مع تحديد فترة رئاسية واحدة لكل رئيس وبحد أقصى فترتين رئاسيتين، ثم تم وضع دستور يحدد صلاحيات كل فرد وتشكلت جميع الفرق والمهام وتم الاتفاق على صياغة مبادئ نبيلة للمشروع، كل ذلك كان بجهد تشارك فيه الجميع وتعديلات متلاحقة حتى تم الوصول لنتائج مرضية.

وكأي كيان جديد كانت الأمور جيدة في البداية، لكن بعد انضمام الكثير من الأعضاء الجدد بدأت تطفو المشاكل على السطح، حيث اعترض "السكان الجدد" فوراً على أهلية الرئيس المنتخب ومجلس الإدارة وشككوا في شرعية الدستور، وكما هي بداية أي حركة معارضة، كان الأعضاء الجدد في بداية الأمر مهمشين وبعيدين عن المشاركة في اتخاذ القرار، ثم ما لبثت أصواتهم أن تعالت مسببة الضيق للسلطة، وهي في حالتنا مجلس الإدارة، الذي يرى أن الأعضاء ينبغي أن يكونوا تنفيذيين فقط ومطيعين. بدأ الأعضاء بتشكيل "لوبي" سري قادر على الضغط لتنفيذ أفكارهم -- عادل المالكي أو طرحها على طاولة النقاش على الأقل، لكن مجلس الإدارة رأى أن الاستماع لهم يعد بمثابة تنازل وتفاوض معهم، لذا رفض الاستماع لمطالبهم تماماً فازداد السخط والغضب حتى توتر الجو تماماً.

ولأن السلطة تعتبر أي مطالب شعبية فوضى، فقد مارست الإدارة ورئيسها (الذي كان دوره في البداية تنظيميا فقط) سياسة قمع قصوى -- عادل المالكي لكل من يعارض المشروع، وبدأوا في فرض قوانين استبدادية تعزز من تفرد الرئيس والمجلس الحاكم بالسلطة: منع للأحزاب، تجريم التجمعات السرية، قمع وطرد الأعضاء المعارضين بالقوة، تغيير الدستور بما يتوافق وأهواء المجلس الحاكم ومنها تمديد المدد الرئاسية للرئيس، ترسيخ سياسة الحزب والرأي الأوحد، عدم الاستماع لصوت الأفراد البسطاء، رفض الأخذ بتصويت الأعضاء والاكتفاء برأي السلطة الحاكمة، ثم تم استخدام نفس ألفاظ النظم القمعية (سنقص الأيادي التي تمتد لنا، من لا يريد أنظمتنا فليغادر، محرضين، مثيري الفتنة، مغرر بهم، عملاء وخونة، خلية الـ ١٧، إلخ).

طبعاً وبما أن المشروع بدأ يلفظ أبناءه، فقد غادر أكثر من نصف الأعضاء حاملين معهم أفكارهم لمشاريع أخرى تحترم وجودهم، ولم تفد محاولات بعض أعضاء المجلس المعتدلين في تقريب وجهات النظر أو تغيير أنظمة المشروع، ولم يبق في المشروع سوى الأعضاء الموالين للمجلس، أو أعضاء لا يعلمون ماذا يحصل فعلاً. وبعد كل ما حدث، بدأت المضايقات تتجه نحو الأعضاء المعترضين بالمجلس، كونهم الصوت الوحيد الذي كان يقول (لا) في وجه الرئيس ولأنهم (أزعجوهم) بمطالباتهم أن يرفعوا سقف الحرية ويستجيبوا للأعضاء، وحينها أصبح مجلس الإدارة عبارة عن قسمين: قسم ينفذ جميع ما يمليه عليهم الرئيس، وقسم آخر يرفض لكنه مسالم لا يحب الاعتراض، ولأن المعترضين لا يتبعون إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء لم تمضِ أيام حتى غادروا المشروع تماماً.

وفي الحقيقة، فإن حدوث ذلك في مشروع تطوعي بسيط هو دلالة على سهولة تحول أي حاكم إلى مستبد إذا توافرت له الظروف المناسبة -- عادل المالكي وغابت القوانين ووجد الحاشية المطيعة، وهذه الطاعة العمياء في تجربتنا الديمقراطية، مقاربة لتجربة مليغرام التي أثبتت تفوق السلطة المجردة على المبادئ النبيلة للأفراد، وسهولة انصياع التابعين للقائد في قمع الآخر حتى ولو خالف ذلك مبادئهم.

هذه التجربة لم تثبت أن السلطة المطلقة فساد مطلق وحسب، بل وبينت أن النزعة الاستبدادية موجودة بكل فرد، وقد تظهر سريعاً إذا امتلك الأدوات المناسبة للاستبداد وغاب الصوت المعارض.

المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه عادل المالكي، ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN .