جميل مطر يكتب.. "لا تحملوا الدبلوماسية المصرية ما لا طاقة لها به"

الشرق الأوسط
نشر
8 دقائق قراءة
تقرير جميل مطر
جميل مطر يكتب.. "لا تحملوا الدبلوماسية المصرية ما لا طاقة لها به"
Credit: PEDRO UGARTE/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

أتمنى أن تبقى حية ومثارة قضية المذيعة اللامعة التي طعنت الدبلوماسية المصرية طعنة نجلاء، حين وجهت إساءة بالغة إلى شعب المغرب ونظام الحكم فيه. لا أدعو إلى اتخاذ إجراءات قاسية ضدها، أو ضد القناة الفضائية التي بثت منها الإساءة، ولكن أرجو أن تكون موضوعا يشغل وقت الإعلاميين، ومعهم الدبلوماسيون، وقبل هؤلاء جميعا المسؤولون عن منظومة الأمن القومي المصري والقائمون على صنع دور جديد لمصر في الإقليم، وفي العالم.

 قضية المذيعة، وهي ليست الإعلامية الوحيدة محل الاتهام في عالم الفضائيات، تثير مسائل عديدة على قدر كبير من الأهمية. بعض هذه المسائل تتعلق بالوظائف التي ابتدعها بعض المذيعين لأنفسهم، ومنها ما هو خارج عن مهام ووظائف الإعلاميين في أي دولة عصرية، أو في دولة تسعى للعصرنة. من هذه الوظائف وظيفة الدعوة، جذورها موجودة في الإعلام المصري الذي خضع طويلا لنظام الرأي الواحد، ولكن فروعها الأحدث نمت حتى ترعرعت في ظل حكم الجماعة الدينية، التي احتالت على ثورة وجهاز حكم مؤقت ونخب سياسية لتصل إلى السلطة.  حينها اعتبرت الجماعة الفضائيات منابر دعوة والمذيعين دعاة، وظهر في المقابل مذيعون قديرون اضطروا أن يسايروا فسلكوا مسالك الدعوة، أو الدعوة المضادة، فانهارت، أو كادت تنهار، الآمال في قيام منظومة إعلامية متطورة.

مسألة أخرى طرأت على الإعلام الفضائي خلفت آثارا سلبية للغاية.  حدث هذا حين تمكنت من الكثير من إعلامي الفضائيات هواية الكلام والاستماع إلى كلام وإدارة حلقات الكلام، حتى باتت بعض القنوات الفضائية تتعرض لسخرية المشاهدين، وبخاصة حين يوشك المتكلمون على استهلاك كل مخزون الكلام العاقل ويلجأون إلى كلام من نوع آخر.  كان بين هؤلاء بطبيعة الحال، مذيعون ومذيعات لجأن إلى الابتكار وطرح معلومات غير صحيحة، وإبداء آراء واجتهادات غير متوازنة ومناقشة موضوعات بدون إعداد وتعمق.  تجاهلوا وتجاهلن في غمرة انبهارهم وانبهارهن بذواتهن أن جهودا تبذل في مكان آخر لإعادة تقديم مصر وساستها ورجالها ونسائها في صورة أزهى وأعقل استعدادا لدور جديد.

لذلك لم تكن قضية المذيعة المتأسفة فريدة أو غير متوقعة، فقد جرى عرف السنوات الأخيرة على أن تحتل المذيعة أو المذيع مساحة من الوقت ملكا خاصا، يفعل أو تفعل فيها ما تشاء، تأتي بمن تشاء، تقول ما تشاء، لا أحد يحاسبها أو يراجعها، إلا إذا عرضت مصالح أصحاب القناة للأذى. هم سعداء طالما استطاع المذيع أو المذيعة استجلاب الإعلانات. كان منطقيا وطبيعيا في ظروف سنوات ما بعد نشوب الثورة، أن أي شخص توفرت له عبقرية الكلام واستعد لبرامجه بجهاز يمده بالشائعات والأخبار، أن يستهلك ساعات في قضايا تتعلق بالوضع الداخلي في مصر. نعرف الآن، وإن متأخرا جدا، حجم الضرر الذي أصاب وحدة المجتمع المصري نتيجة انبهار بعض المذيعين والمذيعات بأسلوب الخطاب الدعوي في السياسة كما في الاقتصاد والأخلاق، وبأساليب أخرى غير متحضرة وغير مناسبة، بل ومتعارضة أحيانا مع مقتضيات الحفاظ على الأمن الاجتماعي.

أفهم، أن يتغاضى المسؤولون أحيانا عن هذا التدهور في أخلاقيات بعض الإعلاميين، أو أن يتدخلوا فقط إذا مس التدهور مصالحهم أو نفوذهم، ولكن لم أفهم تغاضيهم عن الأذى الذي لحق مرارا بجهود صنع دور جديد لمصر في المنطقة المحيطة بها.  نذكر جيدا كيف أنه في حالات معروفة أصاب الضرر البالغ منظومة الأمن القومي، متسببا في إجبار الدولة المصرية على أن تسحب من أرصدتها السياسية، وهي قليلة جدا، للاعتذار لشعوب العراق وسوريا وفلسطين والجزائر والمغرب وليبيا والسودان والسعودية، ناهيك عن الضرر الذي لحق بعلاقاتنا مع عديد الدول الأفريقية وتركيا وإيران.

المتسبب المباشر في هذا الضرر، وفي التكلفة الباهظة التي استنزفها علاج الضرر، شخص هو في أحسن الظن إعلامي غير ناضج سياسيا أو غير مؤهل مهنيا أو غير متزن عقليا، وهو في أسوأ الظن مخرب. إذ لا يعقل أن يتعمد مذيع أو مذيعة سوي وعاقل ومتزن وناضج أن يتسلى بإهانة شعب. لا يعبأ هذا المذيع أو المذيعة بالجهد الذي يبذل في جهات أخرى من الدولة لتخليص مصر من التخبط الذي تدنى إليه دورها، وصياغة دور جديد في ظروفها الجديدة.

في كل الأحوال أعتقد أنه ما كان يمكن للدولة أن تتغاضى عن مسلسل متصل الحلقات تعرف أنه يؤذي مجهودها الدبلوماسي والعسكري، إلا إذا كانت هي نفسها مصابة بانفصام في الرؤية الاستراتيجية، أو كانت تعاني من وجود مؤسسات في الدولة تعتنق عقيدة "الانكفاء" على الداخل، كوقاية ضد "أوبئة الخارج"، كالحريات والحقوق الإنسانية والديمقراطية والمجتمع المدني والعدالة الاجتماعية. المهم بالنسبة لهذا النوع من المؤسسات عزل شعب مصر عن كافة المؤثرات الخارجية، ولو بإثارة مشاعر وغضب فئات من الشعب ضد دول وشعوب أخرى.

لا يجوز، والحال على ما هو عليه، السكوت عن التصرفات غير السليمة التي تؤذي بقصد أو بدون قصد، الجهد الكبير المبذول في مشروع إعادة بناء الدولة المصرية، وهو المشروع الذي تتحمل الدبلوماسية المصرية بعض أعبائه. هذه الدبلوماسية مكلفة الآن بتعبئة كافة مواردها وخبراتها وأجهزتها في الداخل والخارج لاستعادة ثقة شعوب العالم، وبخاصة الشعوب العربية في مصر.  لا أتصور أنه من العدل أن تنشغل الدبلوماسية بوضع الأسس وتنشيط العلاقات التي تضمن لمصر تدفقات استثمارية ومالية وفيرة، بينما يصدر عشوائيا عن بعض أجهزة الإعلام المصري ما يسيء إلى سمعة شعوب وينتقد سياسات دول أخرى. تابعت باهتمام ردود فعل الرأي العام في دول خليجية ومشرقية ودول في شمال أفريقيا للإساءة التي صدرت من المذيعة المصرية اللامعة في حق شعب المغرب، فوجدت ما يشبه الإجماع على انتقاد هذه الإساءة والاندهاش من واقع تردي إعلاميين مصريين في وقت تحاول كل قطاعات مصر النهوض.   وللأسف تطرفت أطراف إعلامية في تلك الدول فأعادت تصدير الإساءة إلى مصر، مسببة أذى لا يغتفر للدبلوماسية المصرية، ولسمعة النظام الجديد في مصر.

 تساءلت، كيف سنحارب الإرهاب القادم من الشرق والزاحف من الغرب، إذا كنا نسيء إلى سمعة شعوب عربية في الشرق كما في الغرب.  كيف يستمر مذيعون ومذيعات وغيرهم من صناع الرأي في الإساءة إلى شعب فلسطين أو جزء منه، بينما كل الشعوب العربية بدون استثناء تتعاطف معه، وتنتظر من شعب مصر دورا متميزا وداعما لمبدأ مقاومة المحتل الصهيوني، عدونا وعدوهم.

غير مقبول أن يحمّل بعض الإعلاميين الدبلوماسية المصرية في فترة حرجة عبئا لا يحتمل، وغير معقول أن نسعى لصنع دور لمصر في منطقة نصر على أن نفقد ود شعوبها، وغير جائز أن تستمر حالة انفصام الرؤية الاستراتيجية في دولة قرر شعبها وبشهادة كافة شعوب العالم النهوض، ومن بعده الانطلاق.