غزة .. أين نحن من الحقيقة؟

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة
غزة .. أين نحن من الحقيقة؟
Credit: MARCO LONGARI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، مدير سابق للأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي في لبنان، واستاذ في قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة. وهذا ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

غزة، فلسطين المحتلة - أكثر من 700 شهيد، آلاف الأطفال والنساء والرجال بإصابات مختلفة، قطاع صحي عاجز عن توفير العلاج للأعداد الكبيرة من المصابين، تدمير منظم للبنى التحتية، معابر مغلقة وقوافل مساعدات لا تصل، شعب يواجه آلة قتل إسرائيلية فتاكة ويتضامن جماعيا إزاء العدوان الوحشي وتحت الحصار البري والبحري والجوي.

جنيف، سويسرا - تصدر المفوضية الأممية لحقوق الإنسان تقريرها بشأن غزة وتشير إلى دلائل على تورط إسرائيل في جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية بحق السكان المدنيين في القطاع. ها هو، إذن، تقرير دولي لا يتخوف من استخدام المفردات التي يتعين استخدامها لتوصيف عدوان إسرائيل وجرائمها، بينما تعمد البيانات الصادرة عن جامعة الدول العربية وعن الحكومات العربية - في أحسن الأحوال - إلى توظيف لغة دبلوماسية "محايدة" تطالب بوقف إطلاق النار وتحمل إسرائيل كسلطة احتلال مسؤولية الحفاظ على أرواح المدنيين وتندد بتوالي سقوط الضحايا.

رام الله، فلسطين المحتلة: يتحرك الرئيس محمود عباس بين العواصم العربية في مسعى للوصول إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، إلا أن فعاليته وفاعلية السلطة الفلسطينية غائبة. لا يستطيع الرئيس عباس أن يعد أهل غزة برفع الحصار حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وبإطلاق جهود إعادة التعمير والتنمية بعد تدمير إسرائيل المنظم للقطاع، لا يستطيع أن يعد حماس والجهاد الإسلامي وبقية الفصائل بأن إسرائيل ستخرج من سجونها الفلسطينيين الذين أعادت اعتقالهم قبل العدوان الحالي، وكانوا من بين من أفرج عنهم في صفقة الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط أو بأن إسرائيل ستتوقف عن أعمالها العدوانية، لا يستطيع أن يعد الشعب الفلسطيني في القدس والضفة الغربية وغزة بأفق حقيقي لسلام تفاوضي يستند إلى حل الدولتين بعد أن قطع الإجرام الاستيطاني أوصال القدس والضفة وتحول التفاوض إلى عبث كامل وقزمت إسرائيل السلطة الفلسطينية إلى وكيل أمني، لا يستطيع أن يعد كل فلسطين وشعبها في القدس والضفة وغزة وداخل فلسطين 48 وفي مواطن اللجوء والهجرة والشتات بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وبانتزاع حق تقرير المصير.

لا يستطيع الرئيس عباس أن يعد بأي من ذلك، بل ولا يستطيع أن يحافظ على بقاء حكومة المصالحة الفلسطينية التي من بين أهداف عدوان إسرائيل الحالي على غزة القضاء عليها، ولم يعد لحديث السلطة في رام الله عن استقرار ورخاء القدس والضفة الغربية الكثير من المضمون. أهل القدس والضفة وغزة وبقية الشعب الفلسطيني يريدون من الرئيس عباس أمرا واحدا، التوقيع على اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، ومن ثم الانضمام لنظامها الأساسي وتمكين السلطة من الملاحقة القانونية الدولية لجرائم الإبادة الإسرائيلية وجرائمها ضد الإنسانية وملاحقة المتورطين فيها دوليا. القدس والضفة وفلسطين 48 ومخيمات اللاجئين والأجيال المتعاقبة للفلسطينيين في الهجرة والشتات، جميعهم يتحدثون اليوم نفس اللغة ويستخدمون ذات المفردات، آن آوان الانتفاضة السلمية الثالثة وإنهاء عبث أوسلو التفاوضي، والتوقيع على اتفاقية روما وملاحقة مجرمي إسرائيل دوليا.

نيويورك / واشنطن / لندن/ باريس / فرانكفورت، عواصم الصحافة والإعلام الغربي - تغيير نوعي تشهده التغطية الإخبارية ومقالات الرأي والحوارات الصحفية والتليفزيونية للعدوان الإسرائيلي على غزة مقارنة بعدوان 2008 و2012 ومن قبلهما عدوان إسرائيل على لبنان في 2006. لم يعد رائجا الانحياز لإسرائيل، لم يعد مقبولا صياغة التبريرات الأخلاقية والسياسية الزائفة لجرائمها، وتحميل حماس والفصائل الفلسطينية مسؤولية سقوط الضحايا والمصابين، لم يعد ممكنا الصمت عن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، لم تعد لإسرائيل وضعية الحصانة الصحفية والإعلامية التي كانت لها طوال السنوات والعقود الماضية، وهي تستبيح الشعب الفلسطيني وتمارس الإجرام الاستيطاني وتضرب عرض الحائط بقواعد القانون الدولي العام والإنساني وقرارات الأمم المتحدة.

تنشر النيويورك تايمز مقالات رأي توثق لجرائم إسرائيل في غزة، وتقارن بينها وبين جرائم النازية بحق اليهود في الحرب العالمية الثانية، ومقالات باسم "مجموعة الأزمات الدولية"  مراكز أبحاث أخرى تؤكد على أن إسرائيل هي التي أرادت "إشعال الحرب الراهنة" وليس حماس غير المتورطة في قتل المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة، وتستخدم التغطية الإخبارية مفردات كجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وعبارات كإسرائيل تحول غزة إلى معسكر إعدام مفتوح. موقع واشنطن بوست يحدث دوريا أعداد الضحايا من الأطفال والنساء والرجال في غزة، ويركز على غياب المبررات الأخلاقية لقتل "كل هذا العدد من الأطفال"، وينشر مقالات رأي تحمل إسرائيل مسؤولية القتل الجماعي، كما ينشر مقالات تصف حرب إسرائيل "ضد حماس" كحرب بقاء وتدافع عن قرارات حكومة نتنياهو، و"تعقل" الجيش الإسرائيلي. الصحف البريطانية والفرنسية والألمانية، بما في ذلك الصحف القريبة من اليمين السياسي والحزبي المؤيد تقليديا لإسرائيل، لم تجمل مشهد العدوان الإسرائيلي على غزة، ولم تتجاهل الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، ولم تبالغ في فرض "دراما الموت وفقدان الأبناء والأصدقاء" على التغطية الصحفية حال متابعة سقوط قتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي أو بين المدنيين الإسرائيليين.

اليوم تبدو إسرائيل عارية وهي تقتل الأطفال والنساء والرجال، اليوم لا حصانة لها في الصحافة الأمريكية والأوروبية ولا في الإعلام الغربي ولم يعد الأمر بقاصر على صحافة اليسار وشبكة "السي ان ان" وبعض مقالات الرأي الموضوعية من هنا ومن هناك، اليوم يقارن صحفيون وإعلاميون غربيون بين جرائم إسرائيل وجرائم النازية، وجرائم الولايات المتحدة في فيتنام، وجرائم نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، اليوم يطالب كتاب غربيون بإعادة النظر في مسار المفاوضات وحل الدولتين بعد أن أماتته إسرائيل، ويطالبون برفع الحصار الظالم عن غزة، ويعبرون عن تفهم لأسباب تمسك حماس والفصائل الأخرى برفع الحصار وفتح كافة المعابر مع وقف إطلاق النار وعلى الرغم من الكلفة الإنسانية الباهظة.

القاهرة، مصر - مشهد صحفي وإعلامي بائس، نقاش عام رديء تغيب عنه المعلومات والحقائق والرشادة، بعض الذين أسهموا في المشهد البائس والنقاش الرديء، يحاولون التراجع الآن بعد أن تجاوز عدد الشهداء 700، وتحدثت المفوضية الأممية لحقوق الإنسان عن شواهد جرائم إبادة، واتسمت التغطية الإخبارية ومقالات الرأي في الإعلام الغربي بالتوازن. مدافعون عن إسرائيل، محيون "لضربات" الجيش الإسرائيلي، مبررون لسقوط الفلسطينيين بين قتلى ومصابين (هم في عالم هؤلاء ليسوا شهداء ولا ضحايا) بعبارات من شاكلة "ما يتقتلوا"أو "هما عايزين كده"أو"هما السبب، مش قتلوا المستوطنين الأول" وغيرها.

أصوات صحفية وإعلامية، أقل جنونا من هؤلاء البائسين الذين يظنون ان إسرائيل هي الصديق وأن الشعب الفلسطيني هو العدو، تحمّل، دون معرفة، حماس والفصائل الفلسطينية مسؤولية عدوان إسرائيل نظرا لقتل المستوطنين الثلاثة - والحقيقة هي أن حماس لم يثبت عليها التورط في قتلهم، يتهمون حماس بالتضحية بالفلسطينيين من أطفال ونساء ورجال لبقاء الحركة سياسيا، ولخدمة أجندات إقليمية تركية وقطرية - والحقيقة هي أن الحصار الظالم على غزة لم يترك لا لحماس ولا للفصائل الأخرى الكثير من الاختيارات غير المطالبة برفع الحصار والتشبث بكل من يطالب بذلك، يدعون أن حماس والفصائل تطلق صواريخها لتوريط إسرائيل والمدنيين الفلسطينيين في مواجهات لا طائل من وراءها - والحقيقة هي أن حماس والفصائل يطلقون الصواريخ اليوم كدفاع شرعي عن النفس، ولم يصعدوا قبل الاستفزازات الإسرائيلية التي سبقت العدوان الحالي، ولم يغفلوا كون الصواريخ بمفردها لن تأتي برفع الحصار عن غزة أو حق تقرير المصير لفلسطين، يقولون إن حماس تريد حربا أبدية ضد إسرائيل - والحقيقة أن حماس براجماتية ولا تعارض هدنة طويلة الأمد حال قيام الدولة الفلسطينية وإنهاء احتلال إسرائيل لأراضي 1967 ومؤخرا أشار خالد مشعل إلى نزع سلاح المقاومة في هذا الإطار.

بعض هذه الأصوات الصحفية والإعلامية، وبعد أن أسهمت في حملة الكراهية ضد فلسطين وتجريم المقاومة والترويج غير الموضوعي وغير الدقيق من الرؤى، ككون حماس تريد الحرب الأبدية والدمار الشامل ولا يفعل قادتها إلا التآمر مع تركيا وقطر، والسكن في فنادق الدوحة والعمل ضد مصر ومبادرتها، وتجاهلوا تماما الحصار الظالم المفروض على غزة والجرائم المرتكبة بها، يبحثون الآن عن العودة قليلا إلى الوراء خشية التماهي الدائم مع جموع البائسين من المدافعين عن جرائم إسرائيل وبعد أن انقلبت قطاعات في الرأي العام العالمي عليها وأدانت الإبادة والقتل الجماعي، وبعد ان اتضح سوء إدارة المبادرة المصرية التي لم ينسق بشأنها مع حماس والفصائل الأخرى. يبحثون الآن عن العودة قليلا إلى الوراء، ويعيدون إنتاج عبارات إدانة لإسرائيل التي تناسوها في الأيام الأولى للعدوان، ويشيرون إلى الحصار الظالم والمفاوضات المفرغة من المضمون وضرورة انتفاض الفلسطينيين في القدس والضفة وغزة لانتزاع حق تقرير المصير، ويطالبون العرب بالتضامن. يبحثون الآن عن العودة قليلا إلى الوراء، إلا أنهم تأخروا مجددا تماما كما تأخروا في صيف 2013 في إدانة الخروج على الديمقراطية في مصر، ودماء فض الاعتصامات وانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة.