رأي.. الألغام الدبلوماسية في الحرب علي غزة

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
رأي.. الألغام الدبلوماسية في الحرب علي غزة
Credit: SAEED KHAN/AFP/Getty Images

هذا المقال للدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومدير شركاء التنمية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

تواجه كافة الأطراف الإقليمية والدولية المنشغلة بالحرب الثالثة التي تشنها آلة العدوان الإسرائيلية علي غزة توازنات دقيقة وضغوطا متناقضة تحد كثيرا من فعالية تحركها لوضع نهاية سريعة لهذا الصراع تكون مقبولة لطرفيه الأساسيين وهما الفصائل الفلسطينية بقيادة حماس في غزة من ناحية والحكومة اليمينية في إسرائيل من ناحية أخرى، مما يجعل جهود هذه الأطراف أشبه بالسير بحذر علي حقل ألغام تخشي كل منها أن ينفجر في وجهها في أي لحظة.. بل لعل بوادر هذا الانفجار قد بدت قريبة لبعض هذه الأطراف في الاتهامات التي وجهت لها جميعا بالانحياز لطرف في الصراع علي حساب الطرف الآخر.

ولا شك أن هذه التوازنات سوف تلقي بظلالها على مساعي الخروج من هذه الحرب الوحشية بتسوية يمكن أن تصمد بعض الوقت، قبل تجدد هذا الصراع من جديد بعد فترة من الزمن تطول أو تقصر طالما أن هذه التوازنات لا تتيح لهذه الأطراف أن تمارس ضغوطا كافية على طرفيه، تجعل من الممكن الوصول إلى تسوية نهائية للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين.

أهم الأطراف الدولية هي بكل تأكيد الولايات المتحدة الأمريكية التي تقف معترضة على أي إدانة لإسرائيل في المحافل الدولية، وتلتزم بتقديم الدعم العلمي والتقني والعسكري والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي والمعنوي لإسرائيل، ولكن عليها أن تتعامل مع أطراف إقليمية انشغلت بالأزمة، في مقدمتها مصر وقطر وتركيا، ودول الخليج الأخرى والأردن التي تساند مصر.. كما أن هذه التوازنات الدقيقة تقيد أيضاً حركة طرفي الصراع المباشرين.

خذ مثلاً موقف الحكومة الأمريكية.. هي ملتزمة بتأييد إسرائيل، ولذلك كرر الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته التأكيد على هذا التأييد، وأنهما يقفان إلى جانب إسرائيل في الدفاع عن حدودها في مواجهة صواريخ حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، وحقها في تدمير الأنفاق التي حفرتها هذه الفصائل لتمكين مقاتليها من النفاذ إلى داخل إسرائيل للقيام بعمليات عسكرية.. وعلى الرغم من هذا الموقف العلني المساند لإسرائيل، أصبح من الواضح أن كلاً من الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته يضيقان بما ترتب على العمل العسكري الإسرائيلي من عدد ضخم من الضحايا بين الفلسطينيين ممن لا ينخرطون في أي عمل قتالي ومعظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، ومن دمار لحق بمنازل الفلسطينيين ومدارس ومساجد ومستشفيات غزة، بما في ذلك مدارس تابعة لهيئة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وهو ما لم تملك قنوات التلفزيون والصحافة الأمريكية تجاهله.

وقد نشرت الصحف الإسرائيلية ما ادعت أنه حديث تليفوني بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي يصر فيه الأول على أن تقبل إسرائيل وعلى الفور وقف إطلاق النار، بل وكشف حديث لوزير الخارجية الأمريكي لشبكة فوكس نيوز الأمريكية لم يعرف أنه كان مذاعاً على الهواء سخريته من دقة آلة الحرب الإسرائيلية التي أنتجت هذا العدد الهائل من الضحايا بين الفلسطينيين، على عكس وعود الحكومة الإسرائيلية بعدم استهداف المدنيين.

وهكذا في ظل هذه الضغوط خرج وزير الخارجية الأمريكي ليعلن أن الهدف من وقف إطلاق النار هو فتح الباب أمام مفاوضات تفضي إلى علاج القضايا الأساسية التي أنتجت التوتر، وفي مقدمتها استمرار الحصار علي قطاع غزة، وهو موقف أغضب الإسرائيليين الذين هاجمته صحافتهم ناقلة انتقادات كبار المسؤولين الإسرائيليين دون أن تسميهم، كما شارك في نقد وزير الخارجية الأمريكي أصدقاء إسرائيل في الصحافة وقنوات التلفزيون الأمريكية.

وفي ظل هذه الضغوط المتناقضة لم تجد الإدارة الأمريكية من وسائل للضغط على طرفي النزاع المباشرين سوى الأحاديث التليفونية واللقاءات الخاصة مع المسؤولين الإسرائيليين، والاستنجاد بتركيا وقطر، اعتقاداً من هذه الإدارة بقدرتهما علي إقناع الفصائل الفلسطينية بقبول وقف إطلاق النار، والوعد بتقديم مساعدات اقتصادية للمساهمة في إعادة تعمير القطاع بعد الحرب.

والواقع أن هذه الضغوط المتناقضة قد طالت أيضاً الطرفين الإقليميين اللذين تصورت الإدارة الأمريكية قدرتهما على التأثير على حماس.. كل منهما ليس مقبولاُ لإسرائيل، على الرغم من حرص كل منهما على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة معها، علنية بالنسبة لتركيا وسرية بالنسبة لقطر، ومع ذلك فإن إسرائيل لم تغفر لأى منهما مواقفه العلنية إلى جانب حماس.. ولذلك قاطعت إسرائيل مؤتمر باريس الذى شاركت فيه الدولتان وحضره وزير الخارجية الأمريكي مع نظيره الفرنسي صاحب الدعوة إلى هذا المؤتمر.

بل لقد بلغت هذه الضغوط المتناقضة مداها في حالة مصر، وهى الطرف الإقليمي الوحيد الذى يمكن أن يكون مقبولاً لدى طرفي الحرب، وصاحب الخبرة في التوسط بينهما.. ومع ذلك دخلت الحكومة المصرية هذا المعترك الدبلوماسي وذاكرتها محملة باتهامات لحماس بأنها تورطت في انتهاك السيادة المصرية أثناء ثورة يناير، وساندت الرئيس الأسبق المعزول محمد مرسي، وتتعاطف مع حركة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر، وتمد يد العون للجماعات المسلحة التي تحارب الحكومة المصرية في سيناء.

كما أن حركة حماس والفصائل الفلسطينية بدورها لها شكواها هي الأخرى من الحكومة المصرية بقيادة الرئيس السيسي، فهي تقيد حركة الفلسطينيين من خلال معبر رفح، ولا تبذل أي مجهود لوقف الحملات المعادية للفلسطينيين ولفصائل غزة في الصحف وقنوات التلفزيون المصرية.

في ظل هذه الظروف جاء التحرك الدبلوماسي المصري مرتبكاً ومتحرجاً، يتجنب الاتصال المباشر بحماس لمناقشة ما سمي بالمبادرة المصرية، ويستنكر الأنباء التي تحدثت عن دعوة قيادة حماس السياسية للحضور إلى القاهرة، وكأن ذلك إثم من عمل الشيطان ينبغي تجنبه، وكأن الاتصال بطرف مباشر في الصراع ليس من أبجديات مجهود الوساطة كما يدرس لطلبة المرحلة الأولي في العلوم السياسية.

ثم تشبثت الحكومة المصرية بمبادرتها التي تجاوزها وزير الخارجية الأمريكي، وكأن صيغة هذه المبادرة كلام مقدس لا يجب الاجتراء عليه.. وقد أعطى هذا التحرك المرتبك الفرصة للصحافة الأمريكية، بل ومراسل صحيفة نيويورك تايمز في القاهرة، للكتابة بأن مصر ومعها دول الخليج العربي والأردن تقف إلي جانب إسرائيل في الحرب علي حماس.. كلها لا تريد خروجاً مشرفاً من هذه الحرب لفصيل فلسطيني لا يغفرون له انتماءه للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.. ومع ذلك لا تملك هذه الحكومات تجاهل تعاطف قطاعات كبيرة من الرأي العام في بلادها مع فلسطينيي غزة، ولذلك تصاعدت نبرتها الإعلامية في الأيام الأخيرة تدين وحشية آلة الحرب الإسرائيلية، وجددت الحكومة المصرية ترحيبها باستضافة محادثات غير مباشرة بين طرفي النزاع المباشرين، على أن يكون تواجد فصائل غزة من خلال وفد فلسطيني موحد بقيادة رئيس السلطة الفلسطينية.

لا تعفى الضغوط المتناقضة طرفي الصراع في غزة.. ومع أن إسرائيل تبدو الطرف الأقوى عسكرياً في هذه الحرب غير المتكافئة، إلا أن الصحافة العبرية ذاتها تستبعد أن تحقق إسرائيل نصراً استراتيجياً في هذه الحرب.. صحيح أنها ربما أوقفت بالقبة الحديدية فعالية كل الصواريخ التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية عليها، وصحيح أيضاً أنها قتلت عدة مئات من مقاتلي هذه الفصائل، ولكنها بكل تأكيد لم تنجح في القضاء على قدرة هذه الفصائل علي إطلاق هذه الصواريخ، ولا تضمن عدم عودة الفلسطينيين لحفر أنفاق تصل بهم إلى داخل إسرائيل.. كما لم تستطع إسرائيل وقف قدرة القيادة العسكرية الفلسطينية على التحكم والسيطرة علي مقاتليها، ولا التكيف بمهارة مع الظروف المتغيرة للمعركة، ويضاف إلى ذلك شلل إسرائيل دبلوماسياً وفقدانها تعاطف الرأي العام العالمي الذى استنكر وحشيتها.

الطرف الفلسطيني مع بسالته لا يريد أيضاً استمرار معاناة الشعب الفلسطيني، الذى ضحى حتي كتابة هذه السطور بأكثر من ألف وستمائة شهيد وثمانية آلاف جريح، ولكنه لا يريد أن يخرج من هذه الحرب العدوانية ليعود إلى أوضاع الحصار السابقة.

لا يدعي صاحب هذه السطور عبقرية دبلوماسية ليجازف باقتراح مخرج من هذه الضغوط المتناقضة على نحو يضمن حلاً مقبولاً لطرفي الصراع، ولكنه يأمل أن تقف الحكومة المصرية إلى جانب المطالب المشروعة للطرف الفلسطيني، بفتح المعابر تحت رقابة دولية، ووقف الحصار، والتزام إسرائيل بما قطعته من تعهدات بالإفراج عن الأسرى، وذلك ليس فقط تحت دعاوى مساندة شعب عربي شقيق، ولكن لأنها مطالب إنسانية، وقد سبق أن وافقت عليها إسرائيل منذ عامين، وهي التي يمكن أن تضمن هدنة على حدود مصر الشرقية إلى حين الوصول إلى تسوية عادلة لصراع الفلسطيني الإسرائيلي.