عمرو حمزاوي يكتب.. "فلسطين بعد العدوان"

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة
تقرير عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي يكتب.. "فلسطين بعد العدوان"
Credit: Christopher Furlong/Getty Images

هذا المقال بقلم  عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

هذه لحظة اختبار وجود لصانع القرار في فلسطين، هذه لحظة اختيارات بالغة الصعوبة والدقة داخليا وإقليميا لا تملك إزاءها حماس وبقية فصائل المقاومة ولا السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير ترف التجاهل أو التحايل أو الانتظار.

واجه الشعب الفلسطيني في غزة العدوان الإسرائيلي بمفرده، وبسلاح فصائل المقاومة، وفي ظل وضعية اللافاعلية الكاملة للسلطة الفلسطينية ممثلة في إدارة الرئيس محمود عباس ومحدودية انخراط الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس في مسارات التضامن مع غزة عبر انتفاضة سلمية ثالثة وفي المقاومة اللاعنفية لسلطة الاحتلال الإسرائيلية التي تقطع أوصال الضفة والقدس بالإجرام الاستيطاني وتقضي عملا على أمل الدولة المستقلة تماما كما تتورط في حصار غزة وجرائم إبادة وإجراءات عقاب دوري ضد أهلها، وفي سياق وضعية هوان عربي غير مسبوق ومحدودية صادمة لتضامن الشارع العربي مع فلسطين.

وإذا كان صمود أهل غزة قد أجبر حكومة بنيامين نتنياهو على وقف العدوان بعد خمسين يوم من جرائم الإبادة وجرائم الحرب، وقبل نتنياهو كما قبلت فصائل المقاومة العودة إلى شروط تهدئة 2012 في صيغة "هدنة دائمة" تمت بوساطة مصرية، فإن تطوير الهدنة باتجاه إنهاء الحصار الظالم للقطاع وفتح معابره وإعادة التأسيس لمقومات الحياة المادية به وكذلك باتجاه حماية الشعب الفلسطيني من الاستيطان وجرائم إسرائيل المتكررة ومحاسبة المتورطين فيها وإنقاذ حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة من عبث أوسلو التفاوضي لن يتحقق إلا:  1) بتجاوز الانقسام  بين الضفة الغربية والقدس وبين غزة، و2) بالتوافق الفلسطيني على استراتيجية جديدة للعمل الوطني ترفض بالقطع الانزلاق مجددا إلى جولات المفاوضات الوهمية كما أنها لا تعتمد فقط على إجراءات الدفاع المشروع عن النفس بتوظيف سلاح المقاومة حين تعود إسرائيل إلى عدوانها الدوري.

ففي ضوء المتداول إعلاميا عن تفاصيل "الهدنة الدائمة" وباستثناء تمكين الصيادين الفلسطينيين من مزاولة عملهم في حدود 6 أميال بحرية عوضا عن قاعدة الـ 3 أميال التي أجبرهم عليها الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات، أحيلت كافة القضايا المرتبطة بإنهاء حصار قطاع غزة وفتح معابره وبتسهيل حركة الناس والبضائع المختلفة منه وإليه وبإجراءات الدعم المادي والإنساني إلى مفاوضات لاحقة.

 

يعني ذلك، وبموضوعية ودون تقليل غير عادل من دور المقاومة أو استخفاف انهزامي بصمود أهل غزة خلال أيام العدوان الخمسين، أن على حركة حماس وبقية فصائل المقاومة أن تعترف بوضوح بأن أهدافها المعلنة – وهي الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني وآمال المتضامنين معه – لم تترجم بعد إلى تغيرات حقيقية على الأرض وأن تدرك سريعا احتياجها بشراكة مع الأطراف الفلسطينية الأخرى لممارسة الضغط الفعال على إسرائيل لانتزاع رفع الحصار عن غزة ووقف الإجرام الاستيطاني في الضفة والقدس وإنقاذ حق تقرير المصير. بل أن على المقاومة وكافة الأطراف الفلسطينية، وعلى الرغم من الكارثة الإنسانية التي ألحقتها آلة القتل الإسرائيلية بأهل غزة الذين استشهد منهم أكثر من 2000 وأصيب منهم الآلاف من الأطفال والنساء والرجال وعلى الرغم من الدمار الرهيب الذي أصاب المقومات المادية للحياة في القطاع، توخي أقصى درجات الحذر قبل الموافقة على اعتماد مصطلح "إعادة إعمار غزة" كمرادف لتلقي المساعدات الإنسانية والمادية لما قد يحمله من تنازل ضمني عن تحميل الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الدولية الكاملة عن العدوان وتداعياته وقبل المشاركة في "مؤتمرات لإعادة الإعمار" قد تجبر الفلسطينيين على التنازل عملا عن الحق في الملاحقة الجنائية لمجرمي الحرب الإسرائيليين وتقديمهم للعدالة الدولية.

 

يعني ذلك أيضا أن على المقاومة في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة والقدس أن يتحركا فورا لتطوير حكومة الوحدة/حكومة الوفاق إلى شراكة كاملة وتوافق على استراتيجية للعمل الوطني تعطي أولوية حقيقية لـ 1) التصديق على بروتوكول روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية والمحدد لنظامها الأساسي بهدف ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، 2) تحفيز الشعب الفلسطيني على الانتفاض سلميا في الضفة والقدس وغزة ضد الاستيطان والحصار والاحتلال الإسرائيلي ومحاصرته داخليا وكذلك إقليميا ودوليا بمبادرات رسمية وشعبية تستند إلى حالة التعاطف العالمي الراهنة – والتي تتناقض مع المحدودية الصادمة للتعاطف العربي، 3) تعليق السلطة الفلسطينية لتعاونها مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي الذي اختزلها في وكيل أمني والابتعاد عن جولات المفاوضات الوهمية والعبث المرتبط بها وترك المجال للانتفاضة السلمية الثالثة حين تبدأ لاستعادة شيء من التوازن لمعادلات القوة شديدة الاختلال اليوم بين إسرائيل والشعب الفلسطيني ولتجديد دماء وحدة القضية الفلسطينية وجوهرها تقرير المصير والدولة المستقلة وعودة اللاجئين.

أما عربيا ومصريا، فإن المقاومة والسلطة الفلسطينية يحتاجان لتوظيف الكثير من الجهد المشترك لتحييد التداعيات السلبية لوضعية الهوان الرسمي ولتنشيط شبكات التضامن الشعبي مع قضيتهم وتجاوز المحدودية الصادمة لتعاطف الشارع العربي الذي يتجاذبه القلق على مصير الدول الوطنية وتستبيحه إما انتهاكات متكررة لحقوق وحريات المواطن أو فظائع حركات وتنظيمات الإرهاب والتطرف.

أدرك جيدا أن بعض منظومات الحكم/السلطة في الخليج لم تعد ترى في القضية الفلسطينية أولوية قومية وربما كان هدفها الرئيسي حين النظر إلى "الأوضاع الفلسطينية" هو احتواء المقاومة وكسرها أو إخضاعها، بينما يوظف حكام خليجيون آخرون "القضية" لخدمة مصالحهم الإقليمية الضيقة. أدرك أيضا جيدا أن مصر الرسمية قصرت دورها أثناء العدوان الإسرائيلي على جهود الوساطة لوقف "الأعمال العدائية"، والعودة إلى التهدئة دون رفع فوري لحصار غزة، ولم تغير موقفها من معبر رفح الذي تواصل رفض فتحه بسيادة مصرية خالصة وتقنين ذلك برقابة أمنية مصرية كاملة، أو توجهها السلبي إزاء حركة حماس وبقية فصائل المقاومة.

أما خطاب الكراهية باتجاه الشعب الفلسطيني في غزة الذي روجت له على نحو غير مسبوق بعض دوائر الإعلام الحكومي والخاص، وتبني الكثير من الكتاب والصحفيين والشخصيات العامة لنقد زائف للمقاومة التي وضعت محل الاتهام "بالتسبب في الاعتداءات الإسرائيلية بعد حادثة خطف وقتل المستوطنين الثلاثة في الضفة الغربية (وهو ما نفته المقاومة فور حدوثه ثم أثبتت تقارير إخبارية إسرائيلية وغربية أيضا عدم صحته واتضح أن حكومة بنيامين نتنياهو وظفت حادثة خطف وقتل المستوطنين – وهي مدانة، والإجرام الاستيطاني مدان من قبلها – لشن عدوانها على غزة للضغط على حماس والفصائل الأخرى وللقضاء المبكر على حكومة الوحدة الفلسطينية ولتجديد العقاب الدوري للشعب الفلسطيني كعادة إسرائيل منذ تأسيسها) فقد رتبا تغييب النقاش العقلاني والموضوعي بشأن قضية فلسطين في المجال العام المصري، ولم تتبلور حوارات جادة عن السبل الأنجع لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي وإجرامه الاستيطاني في الضفة والقدس وعدوانه المستمر على غزة، وطرق رفع الحصار عن القطاع وكيفية إسهام مصر الرسمية في ذلك مع ضمان أمننا القومي والجهود الشعبية الفعالة / العاقلة للتضامن الأخلاقي والإنساني مع شعب يواجه آلة حرب وحشية منذ عقود وقطاع محاصر منذ سنوات ومعرض للموت البطيء حصارا أو الموت السريع عدوانا.

على الرغم من هذا كله، لا يملك الشعب الفلسطيني في ظل تواصل الإجرام الإسرائيلي واستمرار حالة اللافعل الدولية المعهودة ترف قبول التجاهل العربي الرسمي والشعبي. وإذا كانت منظومات الحكم/السلطة في الخليج (باستثناء قطر) وفي مصر لا تربطها بفصائل المقاومة الفلسطينية علاقات إيجابية، فإن تطوير حكومة الوحدة/الوفاق مع السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس إلى شراكة كاملة واستراتيجية معلنة للعمل الوطني من شأنه أن يقلل من الشكوك ويحد من النظرة السلبية. وإذا كانت ذات منظومات الحكم/السلطة تتداخل في السياسة الشرق أوسطية على محاور عدة من بينها مواجهة الإرهاب والتطرف والعداء لحركات اليمين الديني واحتواء النفوذ التركي والإيراني ومعهما الدور القطري، فإن الأنجع للأطراف الفلسطينية هو أن تنأى بنفسها وبقضيتها عن لعبة الأحلاف والتحالفات الإقليمية وأن تعلن اقتصار دورها على مقاومة الاستيطان والحصار والاحتلال الإسرائيلي وانتزاع حق تقرير المصير.

وإذا كان حكام الخليج ومصر الرسمية يعلنون أن وجهة جهودهم الإقليمية هي لملمة أشلاء الدول الوطنية في العالم العربي وعدم السماح بتفكك العراق أو سوريا أو ليبيا أو استمرار الانفصال بين الضفة والقدس وبين غزة ومواجهة الفعل الإرهابي والمتطرف المتخطي لحدود الدول (هنا بمعزل تام عن معارضتي للطبيعة غير الديمقراطية لمنظومة الحكم/السلطة في مصر ولسياساتها في الداخل)، فإن على الأطراف الفلسطينية أن تدلل على عزمها تجاوز الانقسام بين الضفة الغربية والقدس وبين غزة بالشراكة الكاملة وأن ترتكز في فعلها المقاوم للاحتلال على العمل من داخل الأراضي الفلسطينية لتحفيز الانتفاضة السلمية الثالثة وتجديد التضامن العربي مع القضية دون ارتماء في أحضان أحلاف إقليمية على حساب أحلاف أخرى – والخبرة التاريخية للفلسطينيين في هذا الصدد شديدة السلبية.