رأي حول المضربين عن الطعام.. يموتون لنحيا

الشرق الأوسط
نشر
6 دقائق قراءة
رأي حول المضربين عن الطعام.. يموتون لنحيا
Credit: ATTA KENARE/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم رباب المهدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

أهاتف صديقتي لأحدد معها موعدا لتناول العشاء فتخبرني أنها لن تستطيع لأنها ستبدأ إضراباً عن الطعام!  صديقتي زوجة وأم لطفل شقي وجميل اسمه "شيكو" وعليها مسؤوليات كثيرة. ما الذي يدفعها للإقدام على مثل هذا الفعل؟ أخاف عليها فأحادث صديقة أخرى طبيبة وأستاذة جامعية فتخبرني أن ابنها "حسام" وصديقنا المهندس الاستشاري الذي تخطى الستين مشاركين أيضاً في هذا الإضراب مع العشرات ممن لا أعرفهم. تعلمنا في السياسة أن الإضراب عن الطعام هو وسيلة أخيرة للمساجين والمعتقلين للتعبير عن مطالبهم بعد أن يفقدوا كل سبيل آخر للنضال السلمي. ولما كانوا مسلوبي الحرية تصبح أجسادهم وهي في حوزة السجان مساحتهم الوحيدة للفعل. لكن حتى بالنسبة للمساجين فالإضراب عن الطعام هو آخر ما يلجأون إليه بعد المفاوضات والمناشدات والعرائض وكل أدوات النضال السلمي، لأنه بحكم التعريف "سلاح خطير" من الممكن أن ينتهي بموت مستخدمه وليس سجانه. إذاً ماذا يدفع هؤلاء وهم ليسوا مساجين أن يقدموا على هذا الفعل؟ 

الإجابة باختصار هي الظلم ومصادرة كل الوسائل الأخرى لدفع هذا الظلم عن من سلبت حريتهم بدون سبب داخل السجون. المهندس عادل وحسام وأم شيكو وآخرون بدأوا إضرابآ تضامنياً مع محمد سلطان المحبوس منذ أكثر من عام دون صدور حكم ضده وبعد أن فقد ٤٥ كيلو من وزنه منذ بدء إضرابه عن الطعام داخل السجن احتجاجاً على تلفيق التهم إليه، ورشا وهند منير الأمهات اللاتي حكم عليهن بالمؤبد تاركات ورائهن أطفالاً لم يتجاوزوا العاشرة من العمر لمجرد أنهن شاركن في مظاهرة. أعداد المضربين عن الطعام داخل السجون المصرية تتزايد كل يوم ولكل منهم قصة تتخطى كونه أو كونها رقم داخل زنزانة، قصة تدفعهم للمخاطرة بحياتهم في محاولة أخيرة لدفع ظلم بيِن وقع عليهم ولم يجدوا وسيلة لإزاحته، بدءاً من تلفيق التهم مروراً بالأوضاع السيئة والتعرض للتعذيب داخل الحجز وانتهاءً بمعاقبتهم بفترات طويلة من الحبس الاحتياطي دون وجه حق أو محاكمتهم بموجب قانون التظاهر غير الدستوري. الجديد الآن أن ينضم لهم مضربون ممن هم خارج السجون ولم يقع عليهم هذا الظلم بشكل مباشر.

***

هؤلاء قرروا كما قرر غاندي من قبلهم في الهند أنه بعد مصادرة كل وسائل النضال السلمي من المجتمع سواءا كانت الحق في التظاهر أو الاحتجاج على قانون أو نظام حكم، وبعد أن أصبحت أحكام الإعدام أسهل وأسرع في إصدارها من استخراج بطاقة الرقم القومي، وبعد أن أصبح الإعلام يجرم أي مختلف على أنه خائن أو عميل، قرروا أن المساحة الوحيدة التي مازالوا يملكونها بشكل نسبي هي أجسادهم -- رباب المهدي.  وضع حزين أن يصبح من هو داخل السجن كما من خارجه في انحسار القدرة على الفعل والتعبير حتى لا يبقى لهم إلا استخدام أجسادهم. ولكنه أيضا وضع خطير لأن في مقابل من سيستخدم جسده بشكل سلمي عن طريق الإضراب عن الطعام هناك آخرون سيدفعهم انسداد الأفق السياسي لاستخدام أجسادهم قنابل موقوتة بالمعنى الحرفي.

لا أعلم إذا كان النظام أو حتى قطاع كبير من المجتمع سيدرك فداحة وخطورة الوضع ويري هذه النذر كعلامات لوضع متردي وخطير أم أن موجة الفاشية الزائفة الفرحة بقتل قطاعات من المصريين والمصرة على أنه لا سبيل "للتقدم" وبناء الوطن إلا على أجساد جزء من أبناءه ستظل سائدة حتى تبلغ بنا نقطة النهاية. ولكن ما علمنا إياه التاريخ أن باستثناء حالات قليلة لم يكن هناك نضال أو قضية وصل بمدافعيها أن يتبنوا الإضراب عن الطعام إلا وانتصرت قضيتهم في النهاية -- رباب المهدي، حدث هذا في الهند وإيرلندا في نضالهما ضد الاحتلال البريطاني وفي أمريكا وبريطانيا في نضال النساء للحصول على حقهم في التصويت. كان الثمن فادحاً في بعض الحالات وفقد البعض حياتهم في هذا النضال ولكنهم انتصروا في النهاية

***

ما أعلمه كذلك أن الجزء الأكبر من الإعلام لن يهتم بحياة هؤلاء مثلما أهتم بمن طلب التبرع بأعضاء جسده لصندوق تحيا مصر أو لمصر -- رباب المهدي شخصياً (لا أعرف ما هو المنطقي أو المفيد أو حتى معنى أن يطلب أحدهم التبرع بأعضائه لمصر)، وربما حتى يرى البعض أن هذا المتبرع هو الوطني والمضربين عملاء وخونة أو حتى مضحوك عليهم لأن النظام على مر سنين طوال نجح في تصدير أكذوبة أن هناك كيان منفصل اسمه مصر أو الوطن مفصول عن أحوال مواطنيه وظروفهم والظلم الواقع عليهم. هؤلاء المضربون اختاروا ألا يصدقوا الإكذوبة وأن يروا أن مصر هي المصريين فإن وقع ظلم على مواطنين مصريين حتى وإن لم يعرفوهم تصبح نصرتهم هي السبيل الوحيد لنصرة الوطن. فتحية لأكثر من ستين مضربا داخل السجون كلهم محبوسون على خلفية قضايا سياسية وتحية لكل من تضامن معهم ولم يعرفهم ولكنه آمن بعدالة قضيتهم وحقوقهم فصام عن الطعام مثل أي عابد. وللقطاع الأكبر الذي أصبح يعتقد أن كل من لا يطبل للحاكم هم نشطاء "سبوبة" أو عملاء وأن ما بدء في ثورة يناير لا يعدو كونه مؤامرة، أدعوكم لمعرفة قصص المضربين أدعوكم للتعرف على معركة الأمعاء الخاوية ونموت لنحيا وقصص بشر غيبتهم السجون لأنهم آمنوا بمسؤوليتهم عن بناء وطن أفضل. أخيراً، أقول كما قالوا وسموا حملتهم "الحرية للجدعان."