عمرو حمزاوي يكتب ... الحق فوق القوة

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
تقرير عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي يكتب ... الحق فوق القوة
متظاهرات أمام السفارة المصرية في لندن للمطالبة بالافراج عن الصحفيين المعتقلين في مصر، 19 فبراير/ شباط 2014Credit: CARL COURT/AFP/Getty Images

هذا المقال كتبه، عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو يعبر عن رأيه ولا يعبر بالضرورة عن رأي الشبكة.

(CNN)-- الحق فوق القوة، لذلك تتزايد بانتظام أعداد الأفراد ومجموعات الشباب المنضمة لحملات "الحرية للجدعان" و"جبنا أخرنا" و"الأمعاء الخاوية" تضامنا منزها عن المعايير المزدوجة مع كافة السجناء والمعتقلين السياسيين، وبعضهم مضرب عن الطعام منذ فترات زمنية متفاوتة، من محمد سلطان، وماهينور المصري، وأحمد دومة، وأحمد ماهر، إلى أصحاب الأسماء غير المعلومة للرأي العام، وطلبا سلميا لتغيير قانون التظاهرالقمعي وإسقاط العقوبات الجائرة التي فرضت بسببه.

الحق فوق القوة، لذلك تتزايد بانتظام أعداد الأصوات والأقلام التي توعي الناس بتراكم المظالم وانتهاكات الحقوق والحريات، وتشير إلى تداعياتها السلبية على المواطن والمجتمع والدولة، وتجعل من إنهاء الظلم أولوية كبرى لمصر، وتبتكر من الأفكار والرؤى والمقولات ما يدلل على علاقة الارتباط الإيجابي بين شيوع العدل واحترام الحقوق والحريات وبين سعادة المواطن، وسلم المجتمع الأهلي وتماسك الدولة، وثبات مؤسساتها، وما يدحض أيضا إمكانية تحقيق الاستقرار والنجاح في القضاء على الإرهاب والعنف، حين تجدد دماء الاستبداد ويعصف بحكم القانون وتتمدد جغرافيا الظلم والمظالم.

هنا، لا تقل أهمية عن ظاهرة الأعداد المتزايدة للأصوات وللأقلام المتناولة لتراكم المظالم ولانتهاكات الحقوق والحريات مقارنة بصيف 2013، أو بعام مضى حقيقة أن أصحابها يأتون من خلفيات فكرية، متنوعة ويحملون من المواقف إزاء منظومة الحكم / السلطة الراهنة ما يحضر به التأييد الصريح والمعارضة المبدئية وكل ما بينهما.

الحق فوق القوة، لذلك يعود اليوم إلى بعض هوامش المجال العام المصري حديث العدالة الانتقالية على نحو يحرر المفهوم من الاحتكار الرسمي من قبل منظومة الحكم / السلطة (وزارة العدالة الانتقالية ووزرائها)، وينقذ من التسييس والمعايير المزدوجة مضامينه الأساسية – توثيق جرائم وانتهاكات الحقوق والحريات،  مكاشفة الرأي العام بالحقائق وبهوية الجهات المتورطة، والأفراد المتورطين في الجرائم والانتهاكات، و تحديد الأطر القانونية والقضائية لمساءلتهم ومحاسبتهم بشفافية ودون تجاوز لقاعدة ولاية القاضي الطبيعي، ووضع الضمانات الكفيلة بمنع تجدد الجرائم والانتهاكات مستقبلا.

في بيانات وأوراق ومقالات، يطرح قانونيون وحقوقيون وأكاديميون وكتاب وفاعلون بمنظمات المجتمع المدني، مفهوم العدالة الانتقالية دون إغفال للجرائم وللانتهاكات التي حدثت وتحدث لمصريات، ومصريين لم يثبت عليهن أو عليهم الخروج على القانون أو حمل السلاح أو ممارسة الإرهاب والعنف أو التحريض عليهما، ودون تجاهل للضمانات القانونية لكرامة وحقوق وحريات من يقدمون للهيئات القضائية كمتورطين في الإرهاب والعنف وفي مقدمة هذه الضمانات قاعدة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" والقواعد الأخرى التي أرساها تراث عظيم في قلبه أحكام محكمة النقض المصرية، ودون إعمال للمعايير المزدوجة في التعامل مع الجرائم والانتهاكات بحيث يقبل تحولها إلى مسكوت عنه حين تتعلق بأعضاء ومناصري جماعة الإخوان المسلمين ومجموعات اليمين الديني المتحالفة معها، بينما يرفض الصمت بصددها إن ارتبطت بحركات وتيارات أخرى، ودون خوف من المطالبة بالمكاشفة والمصارحة وبمحاسبة المتورطين في الانتهاكات بغض النظر عن هوياتهم الوظيفية أو الشخصية.

الحق فوق القوة، لذلك لم تحل سيطرة منظومة الحكم / السلطة المباشرة، عبر الإدارة الحكومية، وغير المباشرة، عبر استتباع المصالح الاقتصادية والمالية الخاصة، على وسائل الإعلام العامة والخاصة دون أن تفرض الأصوات والمجموعات المدافعة عن الديمقراطية مفرداتها اللغوية ومفاهيمها بشأن توصيف جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، وطرحها على الناس بمسميات واضحة لا اختزال بها للحقائق ولا تجميل بها لممارسات الحكم / السلطة. جرائم التعذيب وانتهاكات الاعتقال والقمع والتعقب السياسي، وغياب الضمانات القانونية وضمانات التقاضي العادل والناجز، مثلا، صارت تتداول في المجال العام بالمسميات هذه ولم تجد المؤسسات والأجهزة الرسمية على ألسنة مسئوليها من مفر من التعامل معها تارة بالنفي غير المقنع، كتصريحات وزير الداخلية الأخيرة التي أكد بها عدم وجود معتقلين في مصر، وتارة بالتخفيف من وطأتها وإطلاق الوعود محدودة المصداقية بالنظر فيها، كتصريحات رسمية كثيرة بشأن جرائم التعذيب.

الحق فوق القوة، لذلك لم تحل أيضا سيطرة منظومة الحكم / السلطة المباشرة وغير المباشرة على وسائل الإعلام العامة والخاصة وما مكنت له من محاولات مستمرة لفرض الرأي الواحد والصوت الواحد دون أن ترفض قطاعات شعبية مؤثرة في طليعتها الشباب الجامعي المبررات الرسمية لانتهاكات الحقوق والحريات كمقتضيات "الحرب على الإرهاب" والقضاء على "جماعات العنف" و"الحفاظ على الأمن القومي" وتنأى بنفسها عن بارانويا "الخطر والخوف" التي يروج لها بتوظيف تأويل مبتسر للأحداث الداخلية والإقليمية، يسكت بصدد الداخل عن العلاقات الارتباطية الجلية بين الاستبداد والمظالم والانتهاكات وإماتة السياسة، وبين استمرار ظواهر الإرهاب والعنف، وبصدد الإقليم عن تلازم الاستبداد والتدخل الأجنبي مع التخليق المتصاعد لتنظيمات إرهابية جديدة، وخروج فعلها عن حدود "المتفق عليها سلفا" مع الممولين والرعاة من حكام مستبدين وأجهزتهم الأمنية، ومن قوى أجنبية واستخباراتها، وهنا وهناك عن عجز الأدوات العسكرية والأمنية بمفردها عن تخليصنا من شرور الإرهاب والعنف.

أما الإجراءات ذات الطبيعة غير الديمقراطية الواضحة مثل إعادة عناصر الأمن إلى الجامعات، وإلغاء انتخابات رؤساء الجامعات وعمداء الكليات، وجعل سلطة تعيينهم في يد رأس السلطة التنفيذية، وإلغاء نشاط الأسر الطلابية ذات التوجه السياسي الحزبي، والتهديد المستمر بتعقب وقمع طلاب المدن الجامعية، وتأجيل الدراسة الجامعية، فلن تفلح أبدا في الزج بشباب الجامعات إلى ساحات الرأي الواحد والصوت الواحد، ولا في حملهم على القبول الضمني لانتهاكات الحقوق والحريات ومن ثم تجاهلها والصمت عنها.

الحق فوق القوة، لذلك يبدي المجال العام المصري وليس فقط على هوامشه القلق من احتمالات تورطنا في حرب أمريكية جديدة على الإرهاب تتجه جيوشها ومعداتها وعملياتها العسكرية وضرباتها الجوية والصاروخية بداية إلى العراق وسوريا، ولا يعلم أحد أين ستتجه بعدهما وأين ستقف. ومصادر القلق متعددة ومباشرة؛ فالحروب الأمريكية السابقة في بلاد العرب لم تسفر إلا عن انتشار للإرهاب والعنف وما يصاحبهما من وحشية ودموية وانتهاكات، وتلازمت الحروب الأمريكية مع استبداد منظومات الحكم / السلطة في بلاد العرب في صناعة بيئة مجتمعية مواتية للتنظيمات الإرهابية وحاضنة لانتشارها، ولم يكن ضحايا متوالية الاستبداد والتدخل الأجنبي والإرهاب إلا المواطن الذي أصبح "الهدف الأسهل" للحاكم المستبد، ولعمليات الجيوش الأجنبية ولأفعال التنظيمات الإرهابية، والمجتمعات التي أضحت ظواهرها الحاكمة هي الدماء وجرائم الإبادة والدمار والتهجير واللجوء، والدول الوطنية التي تحولت مؤسساتها إلى أشلاء في العراق وسوريا وغيرهما.

وإذا كانت بعض القطاعات الشعبية المؤثرة في مصر ترفض توظيف "الحرب على الإرهاب" لتبرير المظالم والانتهاكات وقطاعات أخرى لا تقل تأثيرا مازالت تقبل المبررات الرسمية، إلا أن الطرفين يتلاقان على التسليم بأن حرب أمريكية لن تقضي على داعش وانشطارات القاعدة الأخرى بل سترتب على الأرجح تعاظم نفوذها ومن ثم أدوارها الوحشية والدموية، وأن الحل الأنجع هو العمل على لملمة أشلاء الدولة الوطنية في العراق وسوريا بتجاوز الاستبداد والمظالم والانتهاكات والطائفية الحاضره فيهما منذ عقود، وأن الأفضل لنا هو عدم التورط في الحرب الأمريكية الجديدة لكي لا ترتد علينا وعلى بلاد العرب بالمزيد من التهديدات والتحديات

هنا أيضا تغليب لجوهر الحق على القوة، وإن لم يبلغ لدى القطاعات الشعبية التي مازالت تستسيغ المبررات الرسمية للمظالم والانتهاكات كمقتضيات "لحربنا نحن على الإرهاب" إلى مداه الأخلاقي والإنساني الكامل بعد بالتسليم بأولوية العدل واحترام الحقوق والحريات وبناء الديمقراطية في القضاء على الإرهاب والعنف في مصر ثم تقديم نموذج ناجح لدولة وطنية عادلة وقوية ومجتمع متسامح ومتقدم يقنع إقليميا ويجتذب الشعوب العربية بعيدا عن المتوالية الكارثية للاستبداد والتدخل الأجنبي والإرهاب.

أسجل مجددا، أن لا داعي لليأس أو لإلقاء الأوراق.

هذا المقال كتبه أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، عمرو حمزاوي، وهو يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.