عن ظاهرة التحرش في مصر.. "قوات فصل الجنسين"

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
عن ظاهرة التحرش في مصر.. "قوات فصل الجنسين"
Credit: Spencer Platt/Getty Images

هذا المقال بقلم الكاتب علي الرجال، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

منذ عقد أو يزيد، صار محيط مدارس الفتيات ساحة لكافة أنواع التحرش وامتهان الجسد، ومرتعا لصراعات ذكورية وأعمال البلطجة. في هذه الحقبة لم تكن الدولة تبالي بهذا الأمر، فالخطاب الدائم كان يؤكد أن هذه الأفعال ما هي إلا حالات فردية تحدث في أي مكان في العالم. وعلى الرغم من حدوث حالات تحرش جماعي في قلب العاصمة، فالدولة من خلال شرطتها كانت أكثر اهتماماً بسحق أجساد الناشطات في مظاهرات "كفاية" بل والتحرش الفج بهن للإذلال والتنكيل. والخطاب السائد في الأوساط الشرطية عن هذه الفتيات هو أنهن لا يحترمن أنفسهن. فقطاع من الضباط والأمناء والعساكر يستنكر سماح ذويهم بنزولهن. وتفشت ظواهر التعدي على المرأة والتحرش بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة. وقامت العديد من المجموعات الشبابية بحركات وتنظيمات لمكافحة التحرش. وبدلاً من تنسيق الدولة مع تلك المجموعات كانت تتحرش بهم أمنياً، حتى وصل الأمر لاعتقال بعض أفراد تلك الحركات مثلما حدث بالإسكندرية في أكتوبر 2013 بجوار سان ستيفنو. 

في مايو 2013 أنشأت إدارة لمتابعة جرائم العنف ضد المرأة. وهي استجابة محمودة من قبل الدولة لمواجهة العنف المكثف ضد المرأة على مستويات متعددة، بأمل توفير قدر أكبر من الأمن للمرأة والأسر بشكل عام في تحركاتها في المساحات العامة. فالمؤسسات صارت مجبرة على تلبية الاحتياجات الأمنية للمواطنين وليس فقط احتياجاتها هي. المبشر هو اتساع أفق ورؤية كل من العقيدة منال العاطف ومنار المختار المسؤولتين عن الإدارة. ففي حوارهما مع "المصري اليوم" أكدتا أن المشكلة لا يمكن أن يتم اختزالها في مشكلة أمنية فقط. إلا أن الأمر لا يخلو من مخاطر حقيقية في سبل وكيفيات تنفيذه، وبالأخص حول من يقومون به.

أحلام وأوهام العزل

خطورة قوات مكافحة التحرش هي أنها لن تقتصر فقط على محاربة التحرش ولكن إمكانية تدخلها بشكل قيمي وأخلاقي في صياغة العلاقة بين الجنسين، وهو ما يعني العمل على مزيد من الفشل والتحاشي كحل للأزمة وكصياغة متسقة مع رؤية الدولة المحافظة لطبيعة ونمط العلاقة بين الجنسين، وبالطبع سيلاقي هذا ترحابا شديدا من بنية المجتمع القديم التي تميل لحجب المرأة وبالأخص في المجال العام. وهو ما يتسق مع مورثات قديمة ترى أن الحرة هي من لا تحتاج للخروج من المنزل (مثلاً: المتستتة) وأن المرأة في السوق والشارع هي الآمة المستباحة. وهو الأمر الذي ما يزال يخلق حالة من الشيزوفرينيا عند الرجال. فالباحث محمد نعيم يرى أن هذا التناقض ينحر في صدر الكثير من الذكور، فمن ناحية لم يعد الذكور في مصر يستطيعون تحمل تكلفة جلوس المرأة في المنزل اقتصاديا، وفي نفس الوقت ما زالوا غير مرتاحين لقرار تواجدها وتفاعلها في المساحات والمجال العام.

إن أي حل قائم على العزل والفصل شديد الخطورة على مستقبل أكثر تحرراً وأقل استبطاناً لنماذج وتصورات عنيفة ومكبوتة عن المرأة. وهو ما يعمق من حالة الشيزوفرينيا الذكورية حول المرأة وجسدها ودورها في المجتمع وما تمثله للرجل، بالأخص إذا ما تم تطبيق مزيد من الإجراءات الأمنية في المدينة بشكل أقرب لاحتلال للحركة وحصارها. فكلما زاد غموض الآخر (الجنس المختلف، الغريب، المخالف، المهاجر، إلخ) زاد مقدار التشنج والقابلية للعنف ضده. الأزمة أن كل محاولات غلق المجال العام محكومة بالفشل البنيوي والتاريخي، فلم يعد من الممكن الحل من خلال آليات العزل والاقصاء. فأوساط الشباب صارت أكثر تحرراً وتواصلاً مع بعضها البعض. وصار نمط العلاقات المختلطة أمرا واقعا ومتجاوزا لمجرد التلاقي في مساحات التعليم مثل الجامعة في كل مدن مصر الكبيرة. ومحاولات العزل تعني الدخول في انفجارات اجتماعية دائمة في العلاقة مع انماط وتشكيلات مختلفة من السلطة تمثل نفس الجوهر واحياناً نفس نمط الممارسات. بالأخص أن الدولة صارت تميل لحل مشاكلها مع المجتمع من خلال بناء الجدران العازلة وغلق الشوارع تحت مزاعم الأمن، وهو تجل للحكم العسكري في المساحات المدنية.

وإذا لم يراع الحرص ورسم حدود معروفة لتدخل هذه القوات في المجال العام، فربما ينقلب الأمر ويتحول لقوات تفتيش وضبط أخلاقي على علاقات الناس ونمط حياتهم والتدخل بشكل سافر لبناء سلطة ومراقبة أخلاقية على حياة الأفراد. وهو أمر بمثابة انتهاك صريح للحقوق والحريات الشخصية. وبالتالي استبدال فاشية دينية (التي مثلها الإسلام السياسي) في هذه المساحات بفاشية دولاتية مصحوبة بوصاية أخلاقية من قبل الشرطة تحديداً. وهو أمر واقع بالفعل؛ فاللجان والكمائن في المدن أو على الطرق (طريق العين السخنة نموذجاً)، سواء كانت من قبل الجيش أو الداخلية صارت تتدخل بشكل سافر فيما لا يعنيها قانوناً، مثل السؤال عن طبيعة العلاقة بين الجنسين في نفس السيارة أو إجبار الأفراد على سكب زجاجات الخمور المغلقة مثلما ذكرت عالمة الاجتماع ريم سعد حالات عدة في إحدى مقالاتها بالشروق.

الشباب كموضع اشتباه

أحد المخاطر الكبرى من ترسيخ النزعة الأمنية في التعاطي مع مثل هذه الأمور، هو أن الشباب سيكون موضع اشتباه دائم. وهو الأمر الآخذ في التحقق من تلقاء ذاته بسبب الثورة. فالثورة منذ يومها الأول نعتت بأنها ثورة شباب. وبالفعل صار تجمعهم مصدر لقلق وتوجس الأمن. وتم خلق صورة نمطية عن هؤلاء الشباب وتصنيفهم "كخطر". فالصورة الذهنية التي رسمت عنهم هي هؤلاء الشباب ذوي الشعر الطويل والسراويل الساقطة من الخلف وحاملي الحقائب على الظهر ومرتدي السراويل القصيرة وكاميرات التصوير والكوفيات الفلسطينية، أما فتيات الثورة فهن أصحاب الصوت الزاعق وأصحاب الشعر غير المهندم والمتطاير ومدخنات السجائر، والصورة المتخيلة عن كليهما وعلاقتهما ببعضهما البعض هي صورة أقرب لصور حفلات الجنس الجماعي. ففي نظر السلطة هؤلاء الشباب يتسمون بالانحلال الخلقي الكامل، حتى أن المقولة الخالدة عن تجمعهم في ميدان التحرير هي صورة العلاقات الجنسية الكاملة!!

أطراف الحل المتأزمين

تتهم الدولة في خطابها النشطاء والباحثين والمثقفين بعدم معرفة حقيقة المجتمع والانخراط فيه. يبدو لي أن أحداً عليه قلب هذا المنطق. فالوزارة لا يبدو أنها على علم بما يحدث في محيطها نفسه. فأنا أدعو كل من العقيدة منال العاطف ومنار المختار لخلع الزي الرسمي والمرور بجانب تجمعات الأمن المركزي المنتشرة حول وزارة الداخلية، لربما تتعمق خلفيتهما بممارسات وزارتهم نفسها! فهناك احتياج لتغير جذري داخل بنية وتصورات وممارسات الوزارة أولاً حتى يتسنى لها توفير الأمن بدلاً من توفير الانتهاك والتحرش أو العزل والفصل، وهي الأمور التي تبدع في توفيرها.  فإذا كانت جزءاً أصيلاً من المشكلة فمن الصعب أن تكون المكون الرئيسي والوحيد في حلها وتحويلها. ويكمن حل هذه الأزمة في تحالف واسع وخلاق بين إدارة مكافحة التحرش والتعدي على المرأة وبين النشطاء السياسيين والحقوقيين ومؤسسات المجتمع المدني، إلا أن خطاب الاثنين تحريضي وقائم على التخوين المتبادل.

إن ثمة شيء لم يتغير في بنية وطبيعة هذه المؤسسة غير إحساسها بوقع الهزيمة من الثورة، وثمة شيء لم يتغير في طبيعة وبنية العلاقة بين النشطاء والداخلية، بل على العكس فالفجوة تتسع والضغينة تتعمق والمرارة المتبادلة تزداد. إن أي حل لا يتسع لشبكات مجتمعية وشبابية وسياسية مع الدولة لن يقود إلا لمزيد من العسكرة وتوحش للنزعة الأمنية، وهو ما سوف يعني مزيدا من القمع والتمرد.