"الحركة الديمقراطية في مصر .. وضعية الوهن وفرص التعافي"

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة
تقرير عمرو حمزاوي
"الحركة الديمقراطية في مصر .. وضعية الوهن وفرص التعافي"
مصري نائم على عجلات دبابة عسكرية في ميدان الترحير بتاريخ 6 فبراير/شباط عام 2011 خلال الماظهرات التي طالبت بإسقاط حكم الرئيس المصري السابق حسني مباركCredit: MOHAMMED ABED/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم  عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

في مراحل الوهن، تؤسس بعض الحركات المجتمعية لتعافيها المستقبلي حين توظف أدوات النقد الذاتي بهدف إعادة النظر في أحوالها وأدوارها وممارساتها ولكي تنتج تقييما موضوعيا لأسباب الوهن والسبل الحقيقية لتجاوزه. الكثير من هذا تحتاجه اليوم الحركة الديمقراطية في مصر التي تواجه أزمة كبرى وتبحث عن البقاء وعن شيء من الفاعلية في واقع تتكالب عليه وعلى مواقع القوة والنفوذ والتأثير به مصالح ومؤسسات وأجهزة ذات نزوع سلطوي صريح يعصف بسيادة القانون وحقوق وحريات المواطن ولا رؤية واضحة لها بشأن قضايا التقدم والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.

والحركة الديمقراطية في مصر، ومنتسبوها إما يفرض عليهم الحكم / السلطة هوية ضحايا المظالم والانتهاكات عبر قوانين وإجراءات قمعية وعقوبات سالبة للحرية أو يتوزعون على منظمات المجتمع المدني وتشكيلات نقابية وشبابية وطلابية مختلفة أو يحضرون على هوامش المجال العام كأصحاب رأي وفكر حر يغردون بعيدا عن أسراب طيور الظلام المؤيدة للسلطوية وبعيدا عن رافعي شعارات الديمقراطية بغير اتساق ما كان له إلا أن يحتم رفض انتهاكات الحقوق والحريات منذ اللحظة الأولى ودون معايير مزدوجة ورفض الخروج على مسارات التحول الديمقراطي منذ اللحظة الأولى ودون مقولات "الضرورة" الرائجة (إجراء الضرورة في 3 يوليو 2013 / مرشح الضرورة في الانتخابات الرئاسية / ضرورات الحرب على الإرهاب / وغيرها)، أمامها بعض الخبرات العالمية الملهمة التي يمكن الإفادة منها والبناء عليها للشروع في نقد ذاتي جاد.

ففي أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين وفي أعقاب حربين عالميتين مدمرتين، قامت أغلبية الحركات اليمينية والمحافظة في المجتمعات الأوروبية الغربية بنقد ذاتي شامل مدفوعة بحقيقة أن الأفكار الفاشية والعنصرية تبلورت على حوافها وبكونها تحالفت مع الفاشيات الحاكمة وامتنعت عن مقاومة الاستبداد والحروب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات المروعة، وأعادت تعريف مرتكزاتها كحركات ديمقراطية وحزبية تشارك في العمل العام والسياسي بسلمية وعلنية وباحترام لمبادئ سيادة القانون وتداول السلطة عبر آليات وإجراءات انتخابية ومواطنة الحقوق المتساوية وكحركات اجتماعية تدافع عن المزج بين اقتصاد السوق وبين مسؤولية الدولة لضبط اختلالاته ومناهضة التمييز وضمان الحياة الكريمة للمواطن وتسعى للجمع بين احترام حريات الأفراد والتزام مقتضيات المعرفة والعلم والعقل وبين تشجيع المجتمع على تقدير منظومات القيم الدينية دون إجبار وفي إطار دساتير وقوانين تحمي التعددية والتسامح.

وفي سياقات مغايرة، أنتجت أيضا في النصف الثاني من القرن العشرين بعض الحركات اليسارية والشيوعية في المجتمعات الأوروبية الغربية مراجعة لأحوالها وأدوارها المجتمعية ومواقفها السياسية على نحو أخرجها من خانات رفض الآليات والإجراءات الانتخابية، ومهد لمشاركة أحزابها من مواقع المعارضات البرلمانية في الديمقراطيات الليبرالية التي كانت مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية تتشكل (أو يعاد تشكيلها) وتستقر في ظل حالة من القبول العام، وساعدها على إلزام الحركات اليمينية والمحافظة وأحزابها "الديمقراطية المسيحية" ببعض سياسات العدالة الاجتماعية وبضمانات حقوق وحريات المواطن.

وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وإزاء تبني حكومات اليمين في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية لتوجهات اقتصادية واجتماعية نيوليبرالية عمدت إلى إنهاء أو تقليص سياسات العدالة الاجتماعية في قطاعات حيوية كالخدمات التعليمية والرعاية الصحية وضمانات الحياة الكريمة للعاطلين عن العمل والفقراء والضعفاء سنا أو مرضا أو عجزا وإلى تهميش دور الدولة والمؤسسات ذات الملكية العامة في ضبط اختلالات السوق وإزاء توالي فوز اليمين بالانتخابات البرلمانية في بريطانيا وألمانيا وغيرهما وبالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أخرى، شرعت حركات اليسار مجددا من مواقع المعارضة (بعض اليسار الأوروبي قاد الحكومات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وفي هذين العقدين أيضا نجح الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة في إيصال مرشحيه الرئاسيين أكثر من مرة للبيت الأبيض وفي الحصول على مقاعد الأغلبية في الكونغرس) في إعادة النظر في جمودها الفكري الذي ألزمها بالدفاع عن سياسات للعدالة الاجتماعية ضاعت الأغلبيات الانتخابية المؤيدة لها واتجهت قطاعات سكانية مختلفة لمعارضتها وطلب تغييرها بسبب الأعباء الواقعة على الموازنات العامة وفي ظل تراجع مؤشرات الأداء الاقتصادي والاجتماعي.

وكان أن خرج اليسار الأوروبي عبر أحزابه العمالية والاشتراكية الديمقراطية برؤى جديدة للمزج بين اقتصاد السوق وبين بعض سياسات العدالة الاجتماعية ومع الدفع باتجاه تحسيت الأداء الاقتصادي والاجتماعي - رؤى عرفت في بريطانيا بالطريق الثالث وفي ألمانيا بالاشتراكية الديمقراطية الجديدة وفي الولايات المتحدة بالليبرالية الاجتماعية، وكان أن تمكنت هذه الرؤى من إعادة الأغلبيات الانتخابية إلى اليسار ودفعت لبعض الوقت بقيادات أحزابه إلى مراكز الحكم مع توني بلير في بريطانيا (1997-2007) ومع جيرهارد شرودر في ألمانيا (1998-2005) ومع بيل كلينتون في الولايات المتحدة (1993-2001) – هنا بغض النظر عن تقييم أداء القيادات المشار إليها بعد وصولها انتخابيا للحكم.

وطوال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من ألفية الإنسانية الجديدة، وظفت الحركات العمالية واليسارية والحركات الديمقراطية ومجموعات الدفاع عن الحقوق والحريات في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية أدوات النقد الذاتي لإدراك أوجه الوهن والعجز والقصور التي تورطوا بها أو فرضت عليهم ومكنت نخب فاشية ذات مكونات عسكرية ومدنية إما من الإطاحة بالحكومات اليسارية أو من القمع الدموي للمعارضات الشعبية أو من ارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات واسعة النطاق ضد الشعوب دون مساءلة أو محاسبة وفي ظل شيء من التأييد الدولي – خاصة من قبل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبين.

في سياق النقد الذاتي، انفتحت بعض الحركات العمالية واليسارية في أمريكا اللاتينية بهدف الاقتراب من المواطن ومن الرأي العام المحلي والعالمي على المشاركة في الآليات والإجراءات الانتخابية في بلدانها وإن اتصفت بالشكلية وبغياب النزاهة والشفافية، واتجه بعضها الآخر إلى تركيز جهوده في أنشطة المجتمع المدني وفي العمل التنموي والجماهيري المنظم وطويل النفس، وتبنت طائفة ثالثة من الحركات مهام إدارة حملات توعية محلية وعالمية بشأن جرائم وانتهاكات الحكام وحتمية توثيقها والكشف عنها ومصارحة الناس بها والمحاسبة عنها، وقامت طائفة رابعة باستثمار طاقاتها في الإنتاج الفكري والمعرفي والسياسي الذي ابتعدت به عن الصياغات الحادة للأفكار الشيوعية واعترفت بحق كافة الحركات والقوى السلمية في الوجود ومن ثم في الانفتاح التدريجي على المؤسسات الدينية التي دعمت تقليديا اليمين بما في ذلك حكوماته الفاشية ثم بحثت بعض قطاعاتها التقدمية (تعرف بمسمى لاهوت التحرير) عن تجاوز لمأزق التوقف عن دعم الفاشيات دون تورط في مساعدة حركات شيوعية تطالب بالقضاء على الدين وفي الاقتراب من مؤسسات التعليم الجامعي ووسائل الإعلام والثقافة التي كانت الكثير من العناصر الليبرالية المؤثرة بها راغبة في التعبير الحر عن الرأي والفكر ونقد الفاشية والاستبداد في سياقات أوسع من الانتماء إلى اليسار وتبحث عن أطر جماعية قد توفر شئيا من "الأمان النسبي" للقيام بذلك.

وحصاد التوظيف الجاد لأدوات النقد الذاتي من قبل الحركات العمالية واليسارية والحركات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية هو مسارات تحول ديمقراطي مبهرة تستوطن المجتمعات والدولة والحياة السياسية في ظل قبول شعبي، وتوافق بين اليسار واليمين على تطبيق منظومات متكاملة للعدالة الاجتماعية وللعدالة الانتقالية لتحقيق المكاشفة والمحاسبة ثم ممارسة التسامح بشأن جرائم وانتهاكات الماضي ولضمانات حقوق وحريات المواطن دون تمييز بين السكان الأصليين وذوي الأصول الأوروبية أو بين ميسوري الحال ومحدودي الدخل.

تستطيع الحركة الديمقراطية في مصر الإفادة من خبرات النقد الذاتي هذه والبناء عليها وعلى خبرات أخرى للتعافي المستقبلي وللانتصار للوطن العادل والمتقدم والمتسامح الذي نريده ولا نتنازل عن التطلع إليه. والمنتسبون للحركة الديمقراطية يدركون اليوم جيدا وضعية الوهن الراهن المحيطة بهم، وتتراكم لديهم من الخبرات المجتمعية ما يؤهل لجر الخطوط الفاصلة بينهم وبين قوى الإرهاب والعنف والتطرف التي تدعي زورا وبهتانا مواجهتها للسلطوية وهي بحملها للسلاح وقتلها للناس وبطائفيتها المقيتة وتهديدها لسلم المجتمع الأهلي ولمؤسسات الدولة الوطنية تتناقض بالكامل مع كافة مرتكزات وأهداف الديمقراطيين وتبرر عملا للمزيد من القمع السلطوي ولذلك ينبغي مواجهتها الشاملة، وتتجمع لديهم من عناصر الرؤية الواضحة ما يساعد على جر الخطوط الفاصلة بينهم وبين رافعي شعارات الديمقراطية والحقوق والحريات ممن يوظفونها لتمرير السلطوية أو لتبرير تأييد ممارسات الحكم / السلطة كإجراءات "ضرورة" أو يتقلبون في تعاملهم مع انتهاكات الحقوق والحريات بين صمت وإدانة وفقا لمعايير مزدوجة أو يحتكرون زيفا حق الحديث باسم الوطنية وباسم الدولة الوطنية والحركة الديمقراطية الباحثة عن تقدم الوطن بالحرية وقوة الدولة بالعدل والحق ورفع المظالم هي الأولى بالانتساب إلى الوطنية، ويملكون من قبول التعددية والتنوع واحترام الآخر ومن عدم التشبث بمقولات أفضلية الديمقراطيين الأخلاقية والنزوع المريض للتسجيل الأبدي لمواقف البدايات ما يلزم بالانفتاح على أصوات ومجموعات بين صفوف موالاة الحكم / السلطة باتت تتحفظ على طغيان المكون الأمني وتنتقد تكرر المظالم والانتهاكات وتتخوف من إماتة السياسة.