مروان المعشّر يكتب لـCNN عن النزوح الكارثي من سوريا والعراق

الشرق الأوسط
نشر
5 دقائق قراءة
تقرير مروان المعشّر
مروان المعشّر يكتب لـCNN عن النزوح الكارثي من سوريا والعراق
عراقيون فروا من القتال في مدينة الموصل وتلعفر ينتظرون عند نقطة تفتيش كردية على أمل الدخول الى مخيم مؤقت للمشردينCredit: Spencer Platt/Getty Images

هذا المقال بقلم مروان المعشّر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع مؤسسة كارنيغي، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

ثمة إجماع دولي الآن على أن مسألة النزوح الكثيف في سوريا والعراق، تُعتبر أحد محصلات  "أكبر كارثة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية"، وفق تعبير تقرير أخير للأمم المتحدة. لكن هذه المأساة الراهنة مع ذلك ليست كل شيء: هناك ماقبلها من سياسات وتوجهات أسهمت تاريخياً في ولادتها، وهناك مضاعفات مستقبلية يجب الغوص فوراً في ثناياها لمحاولة فهم مستقبل المنطقة برمتها في ضوئها.

هذان العاملان، أي معطيات الماضي ومضاعفات المستقبل، تدفع إلى ثلاثة استخلاصات.

الاستخلاص الأول هو أن هذا النزوح يجسِّد في الواقع انهيار أي مفهوم للهويات الوطنية الجامعة في دول الهلال الخصيب لصالح هويات فرعية متعددة. والسبب أن غالبية المجتمعات العربية لم تول موضوع المواطنة الاهتمام الكافي. صحيح أن العديد من الدول العربية الحديثة هي نتاج حدود اصطناعية رسمها الغرب بدءاً من اتفاقية سايكس بيكو العام 1916، لكن صحيح أيضاً أن مايقرب من مائة عام مرَّت على هذه الاتفاقية من دون ان تبذل هذه الدول مايلزم لتطوير مفهوم حداثي للمواطنة -- مروان المعشّر يصهر، على سبيل المثال لا الحصر، العربي السنّي والشيعي والمسيحي كما الكردي ضمن وعاء اسمه العراق يحتوي الجميع ويحتفي بهم، أو الماروني والارثودكسي والسنّي والشيعي والدرزي في وعاء لبناني، أو العلوي والدرزي والكردي والسنّي والمسيحي والارمني في وعاء سوري.

الاستخلاص الثاني أنه في حين غابت التعددية السياسية عن معظم ان لم أقل كل الدول العربية، كان هناك قدر معقول وإن لم يكن كاملا من التعددية الدينية في دول الهلال الخصيب وبالاخص في سوريا والعراق.  الا أن غياب التعددية السياسية في هذه الدول التي حكمتها انظمة دكتاتورية لعقود مديدة طال في النهاية التعددية الدينية. الحكم المطلق بقوة السلاح وغياب أنظمة تربوية تعلم النشء احترام الاخر وتعظِّم القواسم المشتركة بين الاديان، أدى في نهاية المطاف إلى مثل هذا النزوح هرباً من بطش الانظمة اواقصائيتها كما من بطش المجموعات المسلحة الهمجية كداعش.

الاستخلاص الثالث أن قوى كداعش لاتخلق من فراغ. لم تكن داعش لتتمدد جغرافيا وعقائدياً بهذا الشكل لو لم تكن هناك ارضية خصبة تتيح لها هذا التمدد. داعش تمثِّل اليوم تهديدا ثقافيا حقيقيا للقيم الدينية والحضارية للمجتمعات العربية. ويجب الاعتراف ان هذه الظاهرة نتيجة للفشل الجماعي للسياسات الاقصائية والاقتصادية ونظم التعليم في تطوير مجتمعات مستقرة مزدهرة تعددية، تحترم المكونات الدينية والعرقية والثقافية كافة فيها. وبالتالي، فان التصدي الامني والعسكري لهذه الظاهرة لايكفي إن لم ترافقه ارادة سياسية لتحقيق تغيير حقيقي في مجمل النهج السياسي والاقتصادي باتجاه المشاركة في صنع القرار والنمو الادماجي والعيش المشترك. فكر داعش التكفيري العنفي الاقصائي يجب ان يجابه بفكر تنويري سلمي ادماجي -- مروان المعشّر.

هذا هو التحدي الذي يواجه المنطقة الآن، ولا يبدو حتى اليوم أنها ترقى لمواجهته. وهكذا، وبعد حوالي اربعة اعوام من بدء الثورات العربية، فان هناك نموذجان واضحان لما يمكن ان تؤول اليه هذه الثورات. اتبعت تونس نموذجا تشاركياً شمل فئات المجتمع كافة، وحكمت القوى الرئيسية فيها البلاد بالتوافق، مما انتج دستورا توافقيا حظي بدرجة عالية من الرضى الشعبي. دستور غلَّب الهوية الوطنية التونسية على اية هوية فرعية، وأعطى للمرأة حقوقا كاملة غير منقوصة، وثبَّت مبدأ التداول السلمي للسلطة كما اثبتت ذلك الانتخابات الاخيرة، فتم وضع البلاد على خطى ثابتة نحو الاستقرار والديمقراطية والازدهار. فيما شاءت سوريا والعراق الحكم الاقصائي المنفرد وعدم الاكتراث لمكونات المجتمع وتشجيع الهويات الفرعية والبطش بالناس لمجرد البقاء بالحكم، ما أنتج ثورات ضد الاستبداد انتهت بظهور قوى متطرفة همجية ونزوح غير مسبوق ودمار مادي وثقافي يحتاج إلى عقود طويلة من الزمن لعكسه.

طريق الخلاص واضحة، فهل بامكان دول المنطقة، وهي من اعتادت الاستئثار بالحكم، اتباعها؟