فهمي هويدي يكتب من تونس: ذكرى ما جرى في آخر قلاع الربيع العربي

الشرق الأوسط
نشر
15 دقيقة قراءة
تقرير فهمي هويدي
فهمي هويدي يكتب من تونس: ذكرى ما جرى في آخر قلاع الربيع العربي
مؤيدات للرئيس التونسي المنتخب الباجي قائد السبسيCredit: FETHI BELAID/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

السؤال الكبير الذي تطرحه نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية هو: هل سقطت حقاً آخر قلاع الربيع العربي؟

.

قبل 24 ساعة من موعد التصويت على الانتخابات الأخيرة (السبت 20/12) أبرزت جريدة «الصباح» التونسية على صفحتها الأولى العنوان التالي: الكشف عن 3 خلايا إرهابية تضم 18 داعشيا كانوا يخططون لسلسلة اغتيالات وتفجيرات. وقبل ساعات من إطلاق الاقتراع العام على الانتخابات التشريعية (فى 26//11) نشرت الصحف التونسية انه تم إجهاض عملية كبرى فى مدينة واد الليل جنوب العاصمة التونسية. وفي اليوم التالي مباشرة لفرار الرئيس الأسبق بن علي (في 14/01/2011) بثت إحدى محطات التلفزيون المحلية خبرا تناقلته وكالات الأنباء العالمية والعربية كانت خلاصته أن مواجهة مسلحة حدثت بين الجيش التونسي ووحدات الأمن الرئاسي المتحصنة في إحدى الثكنات. هذا الخبر أثار انتباه احد الباحثين ــ عادل السمعلي ــ لأنه كان يسكن على بعد دقيقتين بالسيارة من الثكنة المشار إليها. إلا أنه لم يسمع شيئا عن الاشتباك. وفي الصباح اتجه إلى المكان وطاف من حوله إلا أنه لم يجد للاشتباك أثرا. وهي واقعة استهل بها كتابا أصدره بعنوان «معالم الثورة المضادة في تونس». ورصد فيه عديدا من الحالات المماثلة التي جرى فيها الترويج لمعلومات وانطباعات لم يكن لها ظل من الحقيقة ولكن استهدفت تخويف الناس وترويعهم بعد قيام الثورة، خصوصا بعد ما فازت حركة النهضة ذات الاتجاه الإسلامى بأغلبية الأصوات في انتخابات المجلس التأسيسي التي جرت في العام الأول للثورة. من ذلك مثلا انه حين انقطع التيار الكهربائى لمدة ساعة ذات مساء فإن جهة ما أشاعت أن ثمة انقلابا عسكريا وقع فى البلاد، وان البيان رقم واحد على وشك الصدور. من ذلك أيضا ان بعض الصحف تحدثت عن ان 120 مؤسسة أجنبية غادرت البلاد، وان البرلمان الأوروبى قرر تحويل وجهة مليون سائح من تونس إلى اليونان. وكانت تلك مقدمات للتحذير من الانهيار الاقتصادي. ذلك غير أخبار الاضطرابات التي كان يبالغ فيها ثم يدعى الجيش إلى التدخل لإنقاذ البلاد من السقوط.. الخ.

.

ما سبق مجرد صفحة واحدة في سجل التجاذبات والصراعات التي لم تتوقف طوال السنوات الثلاث الماضية. وكان الإعلام احد أسلحتها السياسية وظل التخويف محورا أساسيا لها. خلال تلك السنوات طرأت على الساحة التونسية متغيرات كثيرة سواء فى خرائط القوى السياسية الفاعلة (كان من بينها ظهور حزب نداء تونس) أو في خرائط السلطة (خروج حركة النهضة من الحكومة ) أو حتى في توجهات المزاج العام وشملت الخرائط الساحة الإقليمية حيث كان من أهمها إسقاط حكم الإخوان في مصر وبروز الدور الإماراتي السعودي فى إجهاض مسيرة الربيع العربي. ذلك كله كان له صداه وانعكاساته على التغير في ميزان القوى الذي ظهر في الانتخابات التشريعية التي جرت فى 26 أكتوبر الماضي ثم في الانتخابات الرئاسية في جولتيها الأولى (24/11) والثانية التي تمت هذا الأسبوع (الأحد 21/12).

 أهم ما أفرزته الانتخابات الرئاسية ان حزب نداء تونس احتل المركز الأول حيث حصل على 86 مقعدا بنسبة 17.39% من جملة أعضاء البرلمان (217 عضوا) فى حين ان حركة النهضة تراجع ترتيبها من الأول إلى الثاني إذ حصلت على 69 مقعدا بنسبة 31.79%. وبعدها بمسافة معتبرة جاء حزب الاتحاد الوطني الحر الذي حصل على 16 مقعدا ثم الجبهة الشعبية التى فازت بـ15 مقعدا. ومن المفاجآت ان حزب رئيس الجمهورية د. المنصف المرزوقي (المؤتمر من اجل الجمهورية) حصل على 4 مقاعد فقط أما حزب التكتل الديمقراطى الذي يترأسه د. مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسى فلم يفز بأى مقعد.

تقدم حزب نداء تونس كان بمثابة مفاجأة كبرى حتى لحركة النهضة ذاتها، التي تصورت قيادتها أنها ستظل محتفظة بموقعها في المركز الأول. ويعزى تقدم الحزب الذي لم يتجاوز عمره سنتين ونصف السنة إلى حنكة وكارزما مؤسسه السيد الباجي قائد السبسي الذي دخل المعترك السياسي في خمسينيات القرن الماضي، وشارك في حكومات الرئيسين بورقيبة وبن علي. ثم كان أول رئيس حكومة بعد الثورة في عام 2011. فضلا عن انه قدم في واجهة الحزب وجوها كانت خليطا من اليساريين والنقابيين ورجال الأعمال في حين لم يقدم أحد من رموز العهد السابق. أما ماكينة الحزب الداخلية والتحتية فقد اعتمدت بالدرجة الأولى على قواعد وأدوات الحزب الدستوري القديم المنتشرة في مفاصل المجتمع والخبيرة بخرائطه وخيوطه. بكلام آخر فإن السبسي قدم واجهة جذابة ومقبولة سياسيا واجتماعيا، ثم انه استفاد من حملة تخويف الجماهير من صدارة حركة النهضة للسلطة كما استفاد من أخطاء حكومة الحركة.

 حزب الاتحاد الوطني الحر الذي احتل المرتبة الثالثة كان قد حصل على مقعد واحد في انتخابات 2011. إلا انه هذه المرة استخدم المال السياسي. كما وظف عوامل أخرى منها قناة فضائية يملكها رئيس الحزب ونفوذ رياضى يعول عليه الأمر الذي مكنه من الفوز بـ16 مقعدا. إلا انه لا يعد طرفا في الصراع السياسي.

 قوى اليسار تجمعت في «الجبهة الشعبية» التي ضمت مجموعة من الأحزاب الصغيرة استطاعت ان تفوز بـ15 مقعدا. واحتلت بذلك المرتبة الرابعة في البرلمان الجديد. الأمر الذي دفع باليسار إلى الواجهة لأول مرة في المجلس التشريعى، مما رفع رصيده في المجال العام وحوله إلى ورقة مهمة فى التوازنات والائتلافات السياسية.

.

كما هو معلوم فإن حركة النهضة لم تقدم مرشحا للرئاسة. وقد أسفر الصراع بعد الجولة الأولى التى شارك فيها 27 مرشحا عن حصر التنافس فى الإعادة بين د. منصف المرزوقى والسيد الباجي قائد السبسي. إلا أن الدعايات الانتخابية حاكمت مرحلة الترويكا التى كان د. المرزوقى احد أركانها ومعه حركة النهضة وحزب التكتل الذى ترأسه د. بن جعفر. وكانت المحاكمات فى جوهرها ضد حركة النهضة التى حملت بالمسئولية عن التوترات والإخفاقات التى وقعت خلال السنوات السابقة. وإذ قدم المرزوقي نفسه باعتباره قادما من قلب الثورة، فإن فريقه طعن في كون السبسي ينتسب إلى الثورة المضادة والعهد البائد. كما طعن في قدرته على تحمل مسئولية الحكم في عامه التاسع بعد الثمانين. وبعد أن نشر المرزوقي التقارير الخاصة بملفه الصحي ووضعه المالي، فإنه طلب نشر الملف الصحي للسبسي الذي عرف عنه بإصابته بالفشل الكلوى. كما دعا إلى مناظرته أمام الرأي العام، ولكنه لم يستجب لأى من المطلبين. وفى حين حرصت حملة السبسي على تخويف الناخبين من شبح الإرهاب والإسلام السياسي الذي تحالف معه د. المروزقي، فإن حملة الأخير خوفتهم من عودة عهود الاستبداد التي جاء منها السبسي واستدعى معه بقايا حزبي بورقيبة وبن علي.

طول الوقت كان الاستقطاب الفكرى والسياسى واضحا. فالقوى العلمانية والليبرالية واليسارية والقومية اصطفت إلى جانب السبسى. ورغم ان قيادة حركة النهضة أعلنت وقوفها على الحياد بين المرشحين، فإن قواعدها إلى جانب شرائح أخرى من المتعاطفين مع الإسلام السياسى وبعض رجال الثورة وقفوا إلى جانب المرزوقى. إلا ان الأمر كاد يتحول إلى فتنة كبرى وصراع مجتمعى حين صرح السبسى بأن المتطرفين والسلفيين والنهضويين هم من صوت لصالح المرزوقى. ولأن اغلب جنوب تونس المحافظ كانوا يمثلون الكتلة الأكبر التى صوتت له فإن فريق المرزوقى قرأ كلام السبسى باعتباره اتهاما للجنوبيين بالتطرف والإرهاب. وقد أثار ذلك غضب أهالى مدن الجنوب الذين خرجوا فى مظاهرات حاشدة نددت بالسبسى وكلامه. الأمر الذى احدث شرخا فى المجتمع بين أهل الصحراء الذى ينتمى اليه المرزوقى وأهل الساحل الذين صوت اغلبهم لصالح السبسى باعتباره ينتسب إليهم. ولأن الأولين يستشعرون الغبن والإهمال فى حين ان الآخرين من المحظوظين والميسورين، فإن المظاهرات أحيت الحساسيات الجهوية وكادت تدخل البلاد فى نفق مظلم. ولولا الجهد الذى بذل لاحتواء الموقف وزيارة السبسى واعتذاره للجنوبيين لواجهت تونس أزمة كان يصعب الخروج منها بسلام.

.

فوز السبسى أنهى الصراع حول منصب الرئاسة ولكنه لم ينه المرحلة الانتقالية كما يبدو لأول وهلة. ذلك ان ثمة حراكا سياسيا لا يزال يتفاعل، حتى داخل حزب نداء تونس ذاته الذى يضم فئات التقت على تحدى حركة النهضة وهزيمتها، ولا يجمعها برنامج واحد. آية ذلك مثلا ان السبسى يتبنى موقف التعاون مع النهضة باعتبارها القوة السياسية الثانية فى البلاد التى لا يمكن تجاهلها. أما الأمين العام للحزب ذو الاتجاه اليسارى (الطيب البكوش) فهو من دعاة القطيعة مع النهضة (حين كان وزيرا للتربية يوما ما فإنه فصل اكثر من 1000 مدير مدرسة بحجة أنهم من الإسلاميين وعين مكانهم عناصر من اليساريين). والحاصل داخل نداء تونس له نظيره فى الأحزاب الأخرى بما فيها حركة النهضة، الأمر الذى يعنى ان خريطة الأحزاب معرضة للتغير خلال الفترة المقبلة. ومن الخلفيات التى تذكر فى هذا الصدد ما سمعته من الشيخ راشد الغنوشى عن حركة النهضة كانت قد وعدت السبسى بترشيحه رئيسا للجمهورية بعد فوزها بأعلى الأصوات فى عام 2011. إلا أن سعيها لضمان الأغلبية فى المجلس التأسيسى دفعها للتحالف مع حزب المؤتمر الذى اشترط ترشيح المرزوقى للرئاسة، فقبلت الحركة بذلك وصرفت النظر عن ترشيح السبسى الذى لم يكن أسس حزب نداء تونس بعد.

هناك أيضا قلق مكتوم داخل حزب نداء تونس من الحالة العمرية للسيد للسبسى الذى دخل عامه الـ89. وقد طرحت فى وقت مبكر فكرة تقديم بديل له اصغر سنا، وبرز اسم وزير الاقتصاد ومحافظ البنك المركزى الأسبق مصطفى كمال النابلى على السطح آنذاك. إلا ان المحاولة تم صرف النظر عنها بسرعة وبسبب تخوف البعض من وقوع أسوأ الاحتمالات فإننى سمعت من يهمس قائلا بأن تونس قد تضطر لإجراء انتخابات رئاسية جديدة قبل نهاية السنوات الخمس المقررة لبقاء رئيس جمهورية فى الحكم.

بقيت بعد ذلك مسألة رئاسة الحكومة التى فهمت ان ثمة شبه إجماع فى أوساط الأحزاب السياسية على رفض تولى شخصية من نداء تونس لذلك المنصب. وهو ما يخيف الجميع من شبح «التغوّل» إذا ما تولى حزب الأغلبية رئاسة الدولة ورئاسة البرلمان والى جنبهما رئاسة الحكومة. وقال لى قريب من دائرة السبسى انه يؤيد فكرة تعيين رئيس للحكومة من خارج حزبه لاستبعاد تلك الفكرة التى تستعيد ذكريات الماضى الذى انتفضت جماهير الثورة ضده.

.

لم اجب على السؤال الجوهرى المتعلق باحتمالات انتكاس الثورة، على غرار ما حدث فى أقطار أخرى. وهو ما أرجئ التفصيل فيه إلى الأسبوع المقبل بسبب ضيق الحيز المتاح، إلا اننى أمهد لذلك بملاحظتين هما.

< ان هناك أسئلة كثيرة مثارة حول ضغوط المال الخليجى وغوايته للسبسى ونداء تونس والهدف من وراء ذلك. فى هذا الصدد فإن الحديث متواتر عن تمويل إماراتى لحملة نداء تونس فى الانتخابات التشريعية والرئاسية. وهم يدللون على ذلك بأن دائرة سيدى بوزيد الأكثر فقرا والتى كانت ضمن ضحايا حكم الدستوريين فى حكم بن على فاز فيها السبسى بالمركز الأول وهو المحسوب على الدستوريين، فى حين احتل المرزوقى وهو الحقوقى الذى كرس حياته للدفاع عن أمثالهم احتل المركز الثانى. يتحدثون أيضا عن سيارتين مصفحتين أهدتهما ابوظبى للسبسى أثناء الانتخابات. وهو ما أثار لغطا وشبهات كثيرة اضطرت الرجل إلى الإعلان عن انه قرر إهداءهما لوزارة الداخلية.

< الملاحظة الثانية ان النخبة التونسية معبأة بقوة فى أغلبيتها الساحقة ضد العهد السابق وكل ما يمت له بصلة -- فهمي هويدي. عبرت عن ذلك 3 مشاهد وقعت مؤخرا فى البرلمان المنتخب. الأول أثناء مناقشة النظام الداخلى للبرلمان حين اقترح احد الأعضاء الاستفادة من اللائحة التى كانت مطبقة فى عهد بن على، إلا ان ذلك أثار غضب الأغلبية مما أدى لاستبعاد الفكرة. المشهد الثانى حدث حين اقترح عضو آخر مراجعة قانون العدالة الانتقالية مما كرر غضب الأغلبية وأدى إلى رفض الاقتراح على الفور. وفى المشهد الثالث قـُدم اقتراح بتشكيل لجنة مراجعة الدستور الذى صدر بعد الثورة، وهو ما قوبل بعاصفة من الرفض والاستهجان أسقطت الاقتراح. وإذا انتبهت إلى قوة البرلمان وحصته فى القرار السياسى الذى كفلها دستور الثورة فسوف تدرك ان لقلعة الربيع العربى الأخيرة فى تونس حراسها الأشداء. الأمر الذى يستدعى تفصيلا يوفر سببا آخر يسوغ الانتظار للأسبوع القادم بإذن الله.