داليا سعودي تكتب.. "في دولة العصافير"

الشرق الأوسط
نشر
7 دقائق قراءة
داليا سعودي تكتب.. "في دولة العصافير"
Credit: David Silverman/Getty Images

هذا المقال بقلم داليا سعودي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

في أول الليل، وقت مغيب الشمس مضرجة بالشفق الأحمر، تبدت أسراب الحمام النائم فوق قرميد المنازل كأنها كتابةٌ فرعونية. أكاد أرى رمزية السلام منقوشة على الأجنحة المطوية في أمان. فإذا انفرد الجناح وحلقت الطيور مع مطلع الفجر، تجلت رمزية الحرية في أتم صورها. وما بين الثني والمد، تتكامل ثنائية السلام والحرية ليحكي الطير توق النفس الإنسانية للعيش الآمن تحت سماء الوطن. وبحكم مزاج شخصي يهوى مسرحة المعاني وتشخيص المجردات، برقت في ذاكرتي نماذجٌ أدبية لطيور رسمها أدباؤها بملامحٍ آدمية. 

في المدرسة الإعدادية، قدمتُ وأقراني مسرحية «الطيور» للأديب الإغريقي أرسطوفانيس (446ق.م.-386 ق.م.). اكتسينا بالريش الملون، وألصقنا الأجنحة بالشمع مثل إيكاروس، وقدمنا تلك الكوميديا السياسية الطوباوية، التي تقرر فيها الطيور إقامة مملكة جديدة قوامها المحبة بين كافة المواطنين، وأساس ازدهارها القطيعة مع الفاسدين، بعد أن طغى الظلم والبطش على أثينا واستغرق البشر والآلهة في التسلط. وفى المملكة الجديدة الكائنة فوق السحاب، قررنا نحن الطيور أن لا مكان للانتهازيين المستغلين، ولا للكهنة المنافقين، ولا لمشتريي الأصوات في الانتخابات، ولا للفلاسفة السفسطائيين، ولا للشعراء الأفاقين وبائعي الذمم على العتبات. وأما حق المواطنة في المدينة الفاضلة فلن تمنحه الأطيار إلا لرجلين اثنين من بنى البشر، كان معنى اسم أحدهما «كرامة» والثاني «إنسانية». أتذكر تلك اليوتوبيا المسرحية الساذجة وأضحك من براءتنا... كم كانت أحلامنا الكبيرة كأحلام العصافير!

أما الطائر الذي لا أنساه، وإذا ذكرتُه في نفسي ابتسمت، فهو ببغاء الأديب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز في رائعته «الحب في زمن الكوليرا». ببغاء أزعر، أجرد الجناح، سليط اللسان، لاذع الدعابة، ترتفع عقيرته بشتائم البحارة كأنه إنسي، ويتعالى صوته ليلا بنباح الكلاب لدفع اللصوص. علَّمه سيدُه الغناءَ بالفرنسية، ولقَّنه تلاوةَ مختاراتٍ من إنجيل متى باللاتينية. فكان إذا غنى أطلق حنجرته بصوت امرأة، واختتم شدوه بضحكات ماجنة. كانت مزاجيته الساخرة تتجلى في اختياره متى يتكلم دونما أمر، ومتى يلوذ بصمت مطبق حتى لو استُجديت كلماته، لاسيما في حضرة حاكم البلدة وكبرائها، حين أتوا بهيلهم وهيلمانهم لاستجلاء أمر مواهبه. وكان هو كمن أصابته لوثة عقلية منذ وقع في حلة الطبخ على الموقد، وكاد ينتهي في الحساء المغلي، فتقرر حبسه طوال الوقت في قفصه النحاسي. فلما أفلتَ ذات صباح من وراء القضبان، أسلم جناحيه للريح ومن ورائه الخدم، وجعل يتقاذف فوق أغصان حديقة المنزل هاتفا: «يعيش الحزب الليبرالي! يعيش الحزب الليبرالي! فلتحيا الحرية!!». وهي الصرخة التي كانت كفيلة في زمانها ومكانها بإلقاء مطلقها وراء شمس الساحل الكاريبي.

هذا الببغاء الماركيزي المتمرد، استُدعى رجالُ المطافئ للإمساك به، لكنهم لم يفلحوا. فظل طليقا بين الأشجار، متمتعا بنشوة الخروج من الأسر، مطلقا صيحاته الملتاثة. وفي اليوم التالي، كان سببا قدريا في مقتل سيده!

ولا يسعني في مجلسي هذا، في حضرة الطيور النائمة فوق الأسطح، أن أنسى الطاووس الطائر في قصة بهاء طاهر البديعة «لم أعرف أن الطواويس تطير». ما بين عنفوان معلقة عنترة بن شداد وشجون «أندلسية» أحمد شوقي، يبسط الكاتب سرديته الشجية بهدوء حكيم. ففي حديقة المنظمة الأممية بتلك الدولة الأوروبية، جلس الراوي يتأمل ماضيه كمغترب عمل لسنوات طويلة وسط غرباء، لتسلمه الغربة المادية إلى غربة روحية مزمنة. الحشائش التي أفلتت من آلة تشذيب العشب بقيت طويلة مذهبةَ الأطراف كأنها رماح عنترة. والطواويس الحرة الطليقة تزين المكان ببهائها وتشيع الفزع بنعيقها. ولا يقطعُ تيارَ الذكريات وثرثرة مع الجميلة الباسمة سوى سيارة المطافئ استُدعيت لإنقاذ طاووس قرر أن يخالف طبيعته الداجنة ويطير فوق أشجار الأرز العالية. كيف يصبح ذلك الطاووس المتمرد استعارة لمدافعة الخيبات العاطفية والحيرة الإنسانية، ومقاومة الانكسارات الوطنية والتحكمات الدولية وتحدى القمع السياسي السلطوي، كل ذلك في آن واحد وبكل تلك السلاسة؟ ذلك شأن قلم بهاء طاهر وحده، الذي يُطلق طاووسه من شجرة إلى شجرة متحديا إرادة ضباط المطافئ. لكن مقتضيات رصد الواقع تحتم أن يقع الطاووس مستسلما في شبكة صائده مع نهاية القصة، وكأنه يردد أبيات أمل دنقل في قصيدة الطيور:

الطُّيُورُ التي لا تَطيرْ..

طوتِ الريشَ، واستَسلَمتْ

هل تُرى علِمتْ

أن عُمرَ الجنَاحِ قصيرٌ.. قصيرْ؟!

الجناحُ حَياة

والجناحُ رَدى

والجناحُ نجاة

والجناحُ.. سُدى!

تلك المفارقة المحيّرة هي ذاتها التي تتراءى في أسطورة «عصفور النار» في باليه ستراڤينسكى الشهير. فذاك العصفور النادر هو نعمة ونقمة في آن. وهي المفارقة الظاهرة أيضا في رواية «أن تقتل طائرا بريئا» للأديبة الأمريكية نيللي هاربر لي، التي طرحت قضية الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة في مطلع الستينيات. ففي مشهد رئيسي من تلك الرواية الأوسع انتشارا، يهدى البطل طفليه بندقية صيد، لكنه يحذرهما من خطيئة قتل العصافير. أيها الفتى، قد تمتلك البندقية، لكن دماء الأبرياء عليك حرام... تلك هي الحقيقة التي يجهلها كل إرهابي.

...سيطلع النهار حتما، وتفيق الطيور من سباتها، فمتى أمنت على حريتها ووجدت من «يحنو عليها»، فعلا بعد قولٍ، فستصطف بقوة خلف النسر المجيد الذي وجدت رسمه فوق علمها، عندها لن يغلب دولة العصافير غالب. سيكون الجناح نجاة، سيكون الجناح حياة، وأرضا آمنة فيها كفايةٌ من الحَبِّ والحُب للجميع، في وطن لا يُقتل فيه حملة الورود، ولا يُغتال فيه حماة الوطن.