بعد ضربات الجيش المصري ضد داعش.. ماذا يحدث في الشرق الأوسط؟

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
تقرير أحمد عبد ربه
بعد ضربات الجيش المصري ضد داعش.. ماذا يحدث في الشرق الأوسط؟
مصري يحمل علما كُتب عليه عبارات داعمة الرئيس عبدالفتاح السيسي والوحدة الوطنية ومكافحة الإرهاCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

نحن بكل تأكيد نقترب من مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، مرحلة ربما لا تقل أهمية عن مرحلة التشكل الأول لتلك الجغرافيا المسيسة الافتراضية المسماه بالشرق الأوسط بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، أو عن مرحلة التشكل الثاني لها عقب استقلال معظم دول المنطقة من الاستعمار وزرع إسرائيل، أو تلك المرحلة الثالثة التي لعب فيها النفط دورا هاما في تغيرات ثقافية واجتماعية وسياسية في المنطقة كلها بالتوازي مع الصلح المصري الإسرائيلي والثورة الإيرانية وحرب الخليج الأولى، أو حتى تلك المرحلة الأخيرة التى بدأت بحرب الخليج الثانية واتفاقية أوسلو وانتهاء الحرب الباردة لصالح الهيمنة الأمريكية المنفردة. نحن الآن على أعتاب مرحلة جديدة بدأت بثورات التغيير العربية ضد الأنظمة القمعية ومازالت متواصلة في محاولات التغيير وسط تحولات رهيبة أكبر وأعقد من قدرة، وربما رغبة، قوى التغيير الداعمة للثورة فى متابعتها وملاحقة تطوراتها ونتائجها.

***

هذه المرحلة الجديدة ما زالت غير محددة الملامح، كما أنها مفتوحة النهاية. ومع قيام الجيش المصري بتوجيه ضربات عسكرية جوية وبرية إلى القوات الداعشية في الداخل الليبي أعتقد أن الشرق الأوسط قبل الضربة سيكون مختلفا عن شرق أوسط ما بعدها. بدءا من اليوم أكتب ثلاث حلقات عن سمات هذا التشكل الجديد ومستقبله. اليوم نتحدث عن أهم محددات سلوك ودوافع دول الشرق الأوسط حاليا، بينما فى الحلقة القادمة نتحدث عن ملامح الشرق الأوسط الجديد الجاري في التشكل عنوة عن إرادة الجميع، ثم ننهيه بسيناريوهات مستقبل هذه المنطقة في ظل تمدد ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية أو اختصارا "داعش". فيما يلي أهم سبعة محددات لسلوك دول الشرق الأوسط فى الوقت الراهن:

أولا: الأمن أصبح أهم محدد لسلوك دول منطقة الشرق الأوسط. فلأول مرة منذ انتهاء الاستعمار يصبح "بقاء" الدولة القومية في المنطقة مهددا بفعل مخاطر حالة داخلية وخارجية. هوس البقاء أصبح في تقدير كثيرين من محللي سياسات المنطقة هو المحدد الأهم لسلوك دولها. صحيح هناك تباينات في ترتيب أولويات دول المنطقة. فتركيا تبحث عن إعادة بعث إمبرطوريتها العثمانية بروح  علمانية غربية، فيما تبحث إيران عن تفكيك أي احتمالات لكماشة عربية غربية ضدها، أما إسرائيل فتبحث عن استغلال تناقضات الشرق الأوسط لتعضيد وجودها وتعظيم مكاسبها، فيما تبحث مصر عن العودة إلى القيادة الإقليمية، كما تحاول السعودية ترتيب البيت من الداخل للدخول فى جولة صراع جديدة ضد إيران. وتظل دول مثل ليبيا وسوريا واليمن باحثة عن لملمة حدودها وسيادتها المبعثرة، ولكن يظل الهاجس الأمني هو المحدد الأول لكل لاعبي المنطقة فى ظل صراعات متداخلة ومعقدة على أصعدة محلية وإقليمية.

ثانيا: صراع الهويات يأتي أيضا كقيدا وعاملا في تحديد سلوك دول المنطقة ومن ثم سيتحكم في طريقة التشكيل الجديد للمنطقة. فالدولة القومية في المنطقة أصبحت، بفعل تطورات قديمة بدأت منذ رسم الاستعمار لحدودها، مشتتة بين هويات دون قومية مثلما هو الحال فى سوريا والعراق وتركيا والمغرب العربى، وبين صراع هويات عابرة للقومية (تحديدا إسلامية) كما هو الحال فى معظم دول الثورات العربية. وقد قضى هذا الصراع في تقديري على فرصة إحياء القومية العربية وأصبحت معظم الدول تبحث عن التأكيد والتعضد بهوياتها المركزية كدول قومية فرادى لحل تلك المعضلة وذلك التشتت بين الهويتين. فإعادة بعث النعرة الهوياتية المركزية إذا أصبحت أحد محددات السياسة الخارجية لدول المنطقة وما يحدث من تحالفات أو أحلاف هنا أو هناك ليس إلا خطوات تكتيكية مؤقتة من المتوقع أن تتغير بسرعة وبشدة. ومن الخطأ التعامل معها على إنها ذات ديمومة.

ثالثا: دول المنطقة مستقطبة بشدة بين مقاومتها الطبيعية للتبعية والهيمنة الغربية بفعل ثقل حضارات معظم دولها واستدعاء معظم شعوبها لحكائية "الأمجاد الضائعة" سواء كانت قومية عربية أو إسلامية أو فارسية أو حتى عبرانية وبين نخبها المنخرطة عضويا وهيكليا في علاقات التبعية والاعتماد التام على الغرب في نواحي اقتصادية وعسكرية وثقافية أيضا.هذا المحدد يعني أن عامل "المقاومة للتبعية" لن يكون فقط أحد أهم محددات السياسة الخارجية لدول المنطقة وخاصة العربية منها ولكنه سيكون محكا للصراع بين حركات المقاومة الداخلية وبين النظم الحاكمة.

***

رابعا: ارتباطا بانشغال معظم دول المنطقة بهوياتها المركزية، فإن معظم النظم السياسية للمنطقة أصبحت تعول بقوة على دعم مجتمعاتها الداخلية وتحديدا من الطبقات الوسطى وما فوقها باعتبارها الطبقات المشغلة لغيرها والمتحكمة في الموارد والوعي السياسي أيضا وخاصة فى ظل سيطرة الأخيرة على معظم منابر قيادة الرأي العام. وفي ظل غياب آليات الديمقراطية عن معظم دول المنطقة أصبحت النظم تعتمد بشدة على دعم هذه الطبقات وانشغلت بتعبئتها السياسية لأن الأخيرة أصبحت المتحكمة في مصيرها على الأجلين القصير والمتوسط، ولكن إلى أي مدى سينجح هذا التزاوج على حساب الطبقات الأكثر عوزا والأقل حظا؟

خامسا: أصبحت الأدوات العسكرية والدعائية "الإعلامية" فضلا عن الاقتصادية أهم ثلاث أدوات تستخدمها دول المنطقة فى تحقيق أهدافها الخارجية، مع وجود أفضلية واضحة للأدوات العسكرية في حسم الأمور داخليا وإقليميا. فمع تركيز دول الخليج العربي وتركيا على الأداة الاقتصادية، فإن دول مثل مصر وإسرائيل وإيران وبشكل أقل تركيا أصبحت تعتمد اعتمادا كاملا على عامل الردع العسكري سواء بأسلحة تقليدية (مصر) أو بأسلحة غير تقليدية (إيران وإسرائيل). وفي حين تمكنت إيران من استخدام ظهرائها السياسيين والعسكريين معا في سوريا ولبنان لملاعبة أمريكا وكماشة الخليج العربي، وفي ظل اعتماد اسرائيل التقليدي على الدعم الغربي عامة والأمريكي خاصة فيبقى الجيش المصري في وضع خطر من ثلاث نواحي، فمن ناحية أولى هو الجيش العربي الكبير الوحيد الباقي بعد تراجع وتفتت الجيشين العراقي والسوري. ومن هنا فليس له ظهير إقليمي عسكري قوي يسانده. وهو من ناحية ثانية مازال لاعبا وحيدا في الساحة الإقليمية في ظل موقف غربي مائع يفضل الحلول السياسية علي العسكرية. وهو من هنا عرضة للتورط وحيدا في فخاخ قد تكون معدة مسبقا. وهو من ناحية ثالثة مستنزف في الجبهة الداخلية المصرية على أصعدة عسكرية (سيناء، الحدود الغربية، العمليات الإرهابية) وعلى أصعدة سياسية واقتصادية وهي كلها مخاطر على القيادة السياسية والعسكرية المصرية التعامل معها بجدية.

سادسا: تعاني معظم دول المنطقة، وخاصة الدول العربية، من تراجع دور القيادة الكاريزمية وهو دور تقليدي هام وتاريخي في الشرق الأوسط. وباستثناء دور رجب طيب أردوغان، الذي بدأ يحترق تدريجيا، فإن معظم دول المنطقة بدأت تعاني من غياب قاداتها القادرون على التعبئة والحشد إما بسبب الكهولة المفرطة أو الوراثة المدللة، أو بسبب التورط في صراعات داخلية تزيد من حدة الانقسام والاستقطاب حول شخصية هؤلاء القادة. ومن ثم مازال البحث جاريا على قدم وساق في معظم دول الشرق الأوسط على انتاج وصنع مثل هذه الزعامات الهامة للتعبئة والحشد على النحو السالف شرحه.

سابعا: تزايد دور الفاعلين من غير الدول في المنطقة وخاصة مع تنامى دور الحركات الإرهابية وتطوير قدراتها واستخدامها كورقة سياسية للضغط بواسطة لاعبين عدة على المستويين الدولي والإقليمي. ومع تزايد حدة الصراعات الداخلية والإقليمية، وفي ظل قرار غير معلن من معسكرات الإسلام السياسي في معظمها للعسكرة والتمترس ضد ممثلي الدول القومية، وفي ظل راحة اللاعبين الآخرين لهذا القرار بحيث يتمكنوا من محاربة خصومهم التاريخيين من معسكرات السلاح لا من معسكرات السياسة، تصبح المعادلات في منطقة الشرق الأوسط كلها صفرية لتقاد المنطقة إلى حافة الهاوية.

***

كيف اذا تؤثر محددات هوس البقاء الوطني، ونعرات الهوية المركزية، والمقاومة الشعبية للتبعية الغربية، وتعبئة الطبقات المتوسطة وتعاظم الأدوات العسكرية ودور الجيوش مع تراجع دور الزعامات الكاريزمية وتزايد دور اللاعبين من غير الدول ولاسيما المنظمات الإرهابية على شكل الشرق الأوسط الجديد؟