رأي.. نظريات المؤامرة وانطباعاتنا عن "المجلس الأعلى للعالم"

الشرق الأوسط
نشر
7 دقائق قراءة
رأي.. نظريات المؤامرة وانطباعاتنا عن "المجلس الأعلى للعالم"
Credit: George/Getty Images

هذا المقال بقلم بسمة عبدالعزيز، طبيبة وكاتبة وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

قرأت التعليقات الساخرة، وابتسمت لبعضها، واندهشت لأخرى، وتصورت أن الأمر لا يعدو كونه مَزحة مُبالَغَ فيها، حتى تعثّرت في الفيديو فقرّرت مُشاهدته، على غير عادة الإعراض التي تُلازمني تجاه أخبار مَواقع التواصُل الاجتماعيّ. كان المذيع مُتربعًا على عرشِه، مُسيطرًا على اللقطة، ومُندَمجًا في حديثه تمام الاندماج.

قال فيما قال إنّ المجلسَ الأعلى للعالم قادرٌ على تدمير أي دولة عن طريق إرسال زلازل، وفيضانات تشبه تسونامي الشهير. استشهد بكلمات نسبها إلى مسئول كبير، ليؤكد أن هناك دولا في استطاعتها أن تُرسِل إلى المناطق التي تريد التخلُّص مِنها نيازك، توجّهها عن بُعد لتسقُط فوق المكان بدقّة، وتدمّرُه تدميرًا. كانت مَلامحُ وجهِه تنطُق بالجدية، وتوحي بخطورة ما يَبُثّ إلى الناس.

كتب بعضُ المُعلقين على المواقع الإلكترونية أنّ هذه الحلقة مِن البرنامج لا يُمكن التعقيبُ عليها إذ فاقت اللامعقول، مع هذا أعرف أنّ هناك مَن استمع باهتمام كبير، ومَن فكّر في الأمر بوَجَل، ومَن تأهّب مُحاوِلا أن يضع سيناريو للهجمة القادمة على الطريق، ومَن استقبل الحديث على أنه إنذار حقيقيّ لابد مِن اتخاذ التدابير اللازمة للوقاية مِنه، خاصة وقد استخدم المذيع رُتبة عسكريّة كمصدر أهل للثقة وسط عباراته.

لا تنفكّ الأجواء الضلالية تسيطر علينا، وتتلاعب بنا، وتضربنا مرة بعد مرة دون هوادة. مِنا مَن امتلأ يقينًا في فترة سابقة بجاسوسية "أبلة فاهيتا"، ومِنا مَن صَدَّق وجود المؤامرة الكونيّة التي تترصَّد الوطن في كلّ لحظة، ومِنا مَن تناقل أخبار طائرات التجسُّس التي تتساقط علينا مِن السماء، وقد ساقت تلك الأجواء الضلالية أشخاصًا كُثر؛ ليسوا بأصحابة جهالة، ولا بسطاء عقول، إلى الدفاع عن الجهاز الذي يُشفي مِن كلّ شيء، رافضين خضوعه لاختبارات علمية في الهيئات والمؤسسات الدولية المختصّة، خوفًا مِن تعَرُّضِه إلى السرقة، عاشوا أجواءً الإيمان العميق بالمُعجِزة، خرقوا حدود المنطق، وسحبوا وراءهم آخرين.

كذلك غلَّفت الأجواء الضلالية مَسألة الاعتصام المُسَلَّح الذي نُسِجَت حوله الأساطير، حتى بات الناس مُتيقنين مِن أن هؤلاء القاطنين في خيام على الأسفلت يأكلون لحوم البشر، ويسلخون فروات رؤوسهم، وأنّ أطفالهم ونساءَهم ليسوا بآدميين. نُسِجَت الأساطير حتى بات الناس يتحاكون عن أشياء تصوروا أنهم رأوها بأنفسهم، أو كادوا يسقطون فيها، وأنهم نجوا مِن الضياع بمُعجزات إلهية. الأجواء الضلالية التي صنعها الإعلام حينذاك، رَسَّخت في الأذهان أن ثمة ترسانة من الأسلحة المتطورة، قادرة على دكّ الحيّ الذي استضافها، وربما على مَحو العاصمة ذاتها، والقضاء على مَن فيها. لم ينجُ أحدٌ تقريبًا مِن هذه التصورات، رغم أن الأثر المتوقع لهذا الحجم مِن التسليح لم يظهر، بل مات مئات البشر المُعتصمين، وأغرقت دماؤهم الأرض، مع ذلك ظلّت الفكرة مُستقرة في العقول.

الضلالة لدى الأطباء النفسيين هي الفكرة الثابتة يقينًا، اللامنطقية في محتواها، والتي لا تتزحزح مِن عقل صاحبها مهمًا بلغت غرابتها، ومهمًا صادف مِن إثباتات ودلائل تضحدها وتفنّدها. بعض الأفكار التي أُدخِلَت إلى عقولنا عنوة، تربعت فيها وفينا، وملأتنا تمامًا حتى لم نعُد قادرين على تمييزها مِن الحقيقة. في هذا الإطار أمكن عزو كل شيء وأي شيء سلبيّ نلقاه، إلى ما لا يمكن البرهنة عليه، وعلى الرغم من أن اتهام الآخرين، وتصويرهم على أنهم شياطين هو فعلٌ سياسيٌّ مُرَتّب ليس بجديد، لكنه لا يلقى القبول والتصديق والإيمان إلا نتيجة أجواء ضلالية نعيشها، ونُسهِم بنصيبٍ في صناعتها.

تبدو مُحاولات التريُّث أمام تلك الأجواء التي تخلقها الآلة الإعلامية عسيرة، إذ غالبًا ما يُتهم أصحابُها بالخروج عن الاصطفاف الوطنيّ، وبتثبيط الهِمَم، وبخيانة الروح القوميّة، وبكل ما يمكن إسكاتهم عبره، بحيث يصبح وجودهم نفسه عاملا مِن عوامل ترسيخ المنظومة الضلالية، الممزوجة بروح المؤامرة.

استمتعت إلى أحد محاوري الإذاعة يقول: "قدمنا رسالة إلى الإنسانية، قدمنا للعالم شريان الحياة بحفر قناة السويس الجديدة"، وفي الوقت ذاته تابعت عناوين الصُحف التي خرجت واحدة كأنما أُملِيَت على كُتابها، تزف نبأ الانتصار الكبير، والانبهار العالميّ بإنجاز المصريين، وقد تبارى الناس في تقمُص روح البطولة التي ترقى إلى الإعجاز؛ هناك مَن راح يبكي فرحًا، ومَن راح يستعيد الدمعات التي فرت على وجنتيه أثناء عبور أول سفينة في القناة، وكثير بين أولئك وهؤلاء لم يكونوا مِن المُدَّعين. على الجانب الآخر صدرت عديد التقارير في وسائل الإعلام والمجلات الأجنبية تُحَلِّل، وتناقش، وتذكُر المساوئ والمحاسن، وتطرح التساؤلات حول جدوى تفريعة القناة، لا تتحدث عن الشرايين والمعجزات، ولا تحمل أمارات الهوس والافتتان التي تنفسناها طيلة الأسابيع الماضية حتى كاد بعضنا يختنق لفرط الانتشاء. لا يزال قسم مِن الناس على الحال نفسها حتى اللحظة الراهنة، لا يقرأ ولا يسمع إلا ما يُغذي أفكاره الثابتة بغير أقدام أو جذور، بعيدًا عن أي تقييم عقلانيّ.

انتشرت فكرة مُستقاه مِن حِكمة شعبيّة، مَفادها أن هؤلاء المَغضوب عليهم سوف يدفعون ثمن "المشاريب" عن مَثالِب الفترة الماضية بأكملها، بغضّ النظر عن تورُّطهم أو عدم تورُّطهم فيها، وأظن أننا جميعًا سنتحمّل ثمن "مشاريب" المُستقبل المُمتد، وجزءٌ مِن الفضل حتمًا يعود إلى تلك الأجواء الضلالية التي نترك أنفسنا للانخراط فيها، ونسمح لآخرين بالعبث بنا مِن خِلالها.