ألون بن مئير يكتب لـCNN عن الاعتقال الإداري وواجب إسرائيل الأخلاقي الحتمي

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
تقرير ألون بن مئير
ألون بن مئير يكتب لـCNN عن الاعتقال الإداري وواجب إسرائيل الأخلاقي الحتمي
متظاهرون فلسطينيون يشاركون في مسيرة في مدينة رام الله تضامنا مع محمد علانCredit: ABBAS MOMANI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم د. ألون بن مئير، وهو يعبّر فقط عن رأي كاتبه ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN.

أحيل المحامي الفلسطيني، محمّد علاّن، الذي أضرب عن الطعام مدة (65) يوما ً للإحتجاج على إعتقاله لأجل غير مسمّى في السجون الإسرائيليّة، إلى العناية الطبيّة المركّزة وتمّ تعليق إعتقاله الإداري في شهر أغسطس / آب خوفا ً من احتمال أن يموت في السجن ويثير إضطرابات فلسطينيّة شديدة. وبعد استعادة صحته، أطلق سراح الأسير محمّد علاّن من الرعاية الطبية وأعيد للسجن مرّة أخرى. لم يكن هناك دلائل في تلك الفترة على أنّه سيقوم بالإضراب عن الطعام مرّة أخرى، وهذا الأمر يثير بدوره أسئلة حرجة وجادّة حول شرعيّة ما تقوم به إسرائيل من اعتقالات إداريّة ودرجة إنتهاكها حقوق الإنسان. والجانب الأكثر إثارة ً للقلق في سياسة الإعتقال الوقائي الإسرائيليّة هو مدى خطورة إنزلاق مكانة إسرائيل الأخلاقيّة، ليس فقط من حيث المعاملة الجائرة للمعتقلين الفلسطينيين، بل المدى الذي تقوّض فيه إسرائيل الواجب الأخلاقي الحتمي الذي أنشأها من رماد الحرب العالميّة الثانية.

وبمراجعة سياسة الإعتقال الإسرائيليّة ينكشف مدى فحش والتواء النظام القانوني الكامن وراء هذه السياسة. فإسرائيل تبقي على حالة دائمة من الطوارىء كأداة سياسيّة لتقديم العقلانيّة القانونيّة، الملتوية على أية حال، لسياسة إستمرار الإعتقال الإداري.

لقد قامت إسرائيل بنسج نظام مركّب ومعقّد من إجراءات الطوارىء المختلفة التي استعارتها من فترة الإنتداب البريطاني على فلسطين ومن الحكم الأردني فيما بعد على المناطق الفلسطينيّة ومزجتها بقوانينها العسكريّة والمدنيّة، هذا في حين لا تبذل جهداً منذ حوالي سبعة عقود لتوحيد هذه الإجراءات القانونيّة.

لقد أبقت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة على هذا الخليط من نظام الإعتقال الإداري ليمنحها المرونة للإلتجاء إلى مجموعة من هذه القوانين والأحكام أو غيرها لفرض الحجز أو الإعتقال تحت ستار الشرعيّة، هذا في حين أنّ نظام "قوانين" الطوارىء بأكمله ليس في الواقع سوى أداة حكم مزيّفة.

يتمّ إستخدام، أو بالأحرى سوء استخدام، الإعتبارات الأمنيّة الوطنيّة لتبرير الإعتقال المفتوح لمئات الفلسطينيين بدون إدانتهم بأي جرم. ويُحرم هؤلاء الأسرى من الدفاع القانوني ويُتركون قابعين في السّجون بأمل ٍ ضعيف لإطلاق سراحهم.

وبصرف النّظر عن أية مساعي أجريت لإزالة الراديكاليّة والتعصّب لدى المعتقلين الفلسطينيين بإبقائهم في الإعتقال لفترة غير محدّدة، فإنّ السجن نفسه يصبح حاضنة للتطرّف. فاليأس يبدأ في الترسّخ في النفوس مغذّيا ً بذلك المزيد من الحقد والإستياء ضدّ الدولة، الأمر الذي سيكون له بالطبع أثر مضاعف على عائلاتهم والمجتمعات التي ينتمون إليها.  أضف إلى ذلك، فبغضّ النّظر أيضا ً عن مدى ما سيتوصّل إليه الأسير الفلسطيني من إصلاح وتوبة، فإنّ أغلبية أولئك الذين يتمّ إطلاق سراحهم في نهاية المطاف يعودون للمقاومة العنيفة لأنهم يجدون أنفسهم ما زالوا يعيشون تحت الإحتلال بدون أمل لتغيير مصيرهم البائس.

ففي بداية شهر سبتمبر / أيلول الحالي، قامت وزيرة العدل الإسرائيليّة (التي دعت مرّة للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني) بتقديم مشروع قانون ضد الإرهاب الذي، ضمن أشياء أخرى، سيجمع قوانين الإعتقال الإداري وينسّقها، الأمر الذي سيجعل الأمور بالنسبة للفلسطينيين أسوأ من ذي قبل ويزيد من تدهور العبء الأخلاقي للدولة

مشروع القانون هذا قد يتخلّص من جميع إجراءات الطوارىء السابقة وسيزيد من قدرة الدولة على حجب الأدلة عن المشتبه بهم وعن ممثلهم القانوني بحجة أنّ الإفصاح عن مثل هذه المعلومات قد يعرّض الأمن القومي للخطر. أضف إلى ذلك، يتناقض مشروع القانون هذا مع الفكرة الأساسيّة للقانون الذي لا يعمل من خلال القوّة الغاشمة والإرهاب بل يعترف بتساوي قيمة وكرامة جميع الأفراد الذين يمثلون أمام القانون. ما سيقوم به مشروع القانون هو تسهيل الأمر على الدولة لحجز مشتبهين بهم فلسطينيين بصورة شرعيّة ولفترة غير محدّدة دون محاكمتهم، مضيفا ً بذلك طبقة أخرى من الإنحطاط الأخلاقي للنظام القانوني المفلس بالفعل.

أجل، لا يستطيع أحد - ممّن لهم دراية بوضع دولة إسرائيل من يوم نشأتها وحتّى وقتنا الحاضر - أن ينكر حقيقة أنّ للبلد مخاوف أمنيّة وطنيّة مشروعة. ولكن عندما يصبح الأمن الوطني أداة سياسيّة، تفتح إسرائيل نفسها للإنتقادات الحادة وللإدانة.

وحيث أنّ كل بلد، بصرف النّظر عن طبيعة نظام حكمه، ملتزم بحماية حقوق الإنسان، فإن على كاهل إسرائيل حمل مضاعف من حيث الإلتزام بمعايير التصرّف الأخلاقي، وذلك ليس فقط لأنها تدّعي الديمقراطيّة، ولكن بصورة خاصّة أيضا ً بسبب الظروف الفريدة التي أنشئت بموجبها.

وبالفعل، يحمّل المجتمع الدولي بأكمله إسرائيل مسؤولية الكيل بمعايير مزدوجة، طالبا ً منها مراجعة طريقة تعاملها مع أناس آخرين، وبالتحديد بالنظر لما عاناه الشعب اليهودي عبر قرون ٍ طويلة من الإضطهاد والطّرد والإعتقال والموت

وحيث أنّ هذه الخبرات والتجارب التاريخيّة التي يصعب فهمها مغروسة بصورة مبرّرة في عقل وروح كلّ يهودي وتثير المخاوف العميقة حول أمن إسرائيل القومي، يعتقد العديد من المتشدّدين الإسرائيليين بأنه بالذات بسبب هذه التجارب والخبرات التاريخيّة المرعبة لديهم "الترخيص" بمعاملة الآخرين بنفس الطريقة التي عومل بها اليهود.

هذا المنطق في محاولة تصحيح خطأ تاريخي أصبح نوعاً من التعويذة أو الشعار الوطني، متجاهلا ً حقيقة أن سوء معاملة الفلسطينيين من قبل الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة قد حطّ بشكل ٍ مقلق من المبادىء الأخلاقيّة للبلد وصعّد من رهبة الأمن القومي فيه بدلا ً من تخفيفها.

قد يتساءل المرء: بأي إجراء ٍ يمكن أن يؤدي إذلال الفلسطينيين وسلب أراضيهم وبناء المستوطنات وهدم بيوت الفلسطينيين واقتلاع أشجار الزيتون والقيام بمداهمات ليليّة بشكل ٍ منهجيّ ووضع قيود على حركتهم بدون مبرّر واعتقال المشتبه منهم إلى أجل ٍ غير مسمّى (غالبا ً بدون إتهامهم بأي جرم) إلى تعزيز أمن إسرائيل القومي ؟؟!!

ومن السخرية هنا أنّه في حين تسعى إسرائيل لاحتواء التطرّف الفلسطيني، وهو أمر ٌ ضروري لحماية أمنها القومي، من خلال إجراءاتها الخاصّة ضدّ الفلسطينيين، تقوم إسرائيل نفسها بتقويض قضاياها الأمنية المشروعة وتغذي المزيد من التطرّف

ومن الأمور المتناقضة هو أنّه في حين يُسرع كل مسؤول أمني والعديد من الإسرائيليين العاديين في الإشارة بإصبع الإتهام على أيّ حدث عنيف يقترفه فلسطيني كبرهان على أنّ الفلسطينيين خطر أمني حاضرا ً ومستقبلا ً، فإنهم بكلّ بساطة وأريحيّة يتجاهلون الحقيقة المرّة وهي: خمسون عاما ً من الإحتلال وتأثيره السامّ على كلّ فلسطيني.  

تستطيع أية حكومة إسرائيليّة أن تعتقل عشرات الآلاف من الفلسطينيين لأجل غير مسمّى وتتبنّى أيّ مشروع قانون لمكافحة الإرهاب، ولكنها لن تستطيع أبدا ً إحتواء المقاومة الفلسطينيّة الشديدة ما دام هناك احتلال.

لن تزول مخاوف إسرائيل الأمنيّة المشروعة ببناء المزيد من المستوطنات واغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينيّة أوببناء الجدران والسياجات، وبالتأكيد أيضا ً ليس باعتقال أو بسجن الفلسطينيين لأجل غير مسمّى مهما كانوا عنيفين. لا بالعكس، فهذه الإجراءات - ناهيك عن الوزراء في الحكومة الحاليّة الذين ينادون علنا ً لضمّ أكبر جزء ممكن من الضفة الغربيّة - هي الكفيلة فقط  بإثارة السّخط وتعريض أمن إسرائيل القومي ومستقبلها للخطر كبلد ديمقراطي وآمن لأولئك اليهود الذين يختارون أن يجعلوها موطنا ً لهم.

يعتمد أمن إسرائيل القومي بشكل ٍ نهائي على الإلتزام الأخلاقي الذي نشأت الدولة على أساسه، ويبقى إيجاد حلّ مرض ٍ للصراع مع الفلسطينيين أمر رئيسي للصدى الأخلاقي لإسرائيل كدولة ديمقراطيّة بهويّة وطنيّة يهوديّة