فريق CNN في سوريا يكتب عن مهمته على خطوط الجبهة الأمامية

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة

 ملاحظة المحرر: مراسلة CNN كلاريسا وورد والصحفية في الشبكة سلمى عبدالعزيز زارتا سوريا مؤخرا في مهمة تمت بالخفية، وتوجهتا بالتحديد إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، والتي لم يزرها أي صحفي أجنبي منذ ما يقرب العام. عملت الصحفيتان مع المخرج بلال عبدالكريم لتقديم مجموعة من التقارير حول الوضع في سوريا.

المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سوريا (CNN) --  شعور يصيبك بالغثيان عند سماعك صوت الطائرات الحربية وانتظار سقوط قذائفها في منطقة قريبة منك. مشهد يشعرك باقتراب الموت، خصوصا وأنك لا تعرف البقعة التي قد تسقط فيها هذه الطائرات حمولتها.

فوق تلة تطل على بلدة أريحا، يبدو أن دليلنا "أبو يوسف" حدد موقع الطائرة في السماء، كما حدد نوعها ومصدرها. "إنها طائرة روسية،" يقول لنا.

قذفت ما تحمله، وهناك، في تلك البقعة، صدرت أصوات عدة. صفارات إنذار، وأشخاص يطلبون العون والنجدة، وعمال إنقاذ ينادون سيارات الإسعاف، وسيدة تبكي هنا، وأخرى تصرخ هناك، وفوق ذلك كله، يعلو صوت شعب يشتم بشار الأسد وروسيا.

في أقرب مستشفى، يبعد ١٠ أميال تقريبا عن موقعنا، هناك أصوات أكثر. رجال يتجادلون ويزيحون جسد صبي صغير جرح أثناء الغارة، وأطباء يصرخون مطالبين الموجودين بالابتعاد ليتسنى لهم علاج المصابين، وفي زاوية وحيدة، تبكي أم على أطفالها الذين سقطوا في هذه الغارة.

بالنسبة لنا كزوار، هذا المشهد سريالي بشكل لافت. فكما ترافقك الأصوات، ترافقك أيضا الصور. فكيف بساكني هذا البلد، الذي أصبحت الحرب جزءا من يومهم، وهذه الأصوات والصور جزءا من حياتهم؟

حينما ضربت المقاتلة الحربية تلك المنطقة، كان قد مر على وجودنا هنا أقل من ٢٤ ساعة، واليوم، ومع دخول الحرب عامها السادس، باتت الغارات هذه بكل ما تحمله من تفاصيل، حدثا يوميا اعتاده الناس هنا.

الغارات بدأت ببراميل متفجرة تسقطها الطائرات التابعة للجيش السوري، وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، دخلت القوات الروسية على الخط، لتصبح هذه الغارات أكثر عددا وعنفا.

روسيا تقول إنها لم تستهدف سوى "الإرهابيين"، كعناصر داعش، والقاعدة، وجبهة النصرة، إلا أن ما رأيناه اليوم هو غارة تستهدف سوقا للفواكه.

فمنذ متى كان "الإرهابيون" هم من يشترون الفواكه من الأسواق؟ زوار هذا السوق هم أشخاص عاديون مثلنا تماما، ففي لحظة يتجادلون مع الباعة بشأن سعر كيلو البرتقال، وفي اللحظة التالية تجدهم جثثا ممدة على الأرض لا حول لها ولا قوة.

الجمعيات المراقبة لما يحدث في سوريا تؤكد سقوط قرابة ألفي شخص منذ بدء الغارات الروسية في سوريا.

"كل يوم أصارع ذاتي بشأن إرسال ابنتي للمدرسة،" تقول إحدى السيدات لنا، ونحن نجلس على وسائد أرضية في أحد المنازل ببلدة معرة النعمان، التي أنهكتها الغارات الجوية خلال الأشهر الأخيرة.

إلى جانبها، تقف ابنتها البالغة من العمر ستة أعوام، بعينين خجولتين تراقبنا نحن الأجانب القادمون من أقصى بقاع الأرض لمعرفة قصتها.

كثيرون قالوا لنا إنه بإمكاننا سماع صوت الطائرة إن لم نكن أهدافا لها، أما إن كنا، فلا نسمع صوتها أبدا. أثار هذا الحديث في داخلنا نوعا من الراحة، فأنت لن على يقين بأنك لا تعرف بقدوم الموت قبل ثوان قليلة من حدوثه.

ولكن ما ينتشر في سوريا اليوم هو حالة من الصمت: لا أحد يريد أن يوجه الأسئلة ولا أحد يريد تقديم إجابات عما يحدث، فما يغلب على الحال الآن هو الهلع والخوف والترقب.

هذه المنطقة التي وصلنا إليها في سوريا لم يدخلها أي صحفي أجنبي منذ ما يقرب العام. تجوالنا في بعض المناطق السورية كان في الخفية، إذ ارتديت نقابا وعباءة سوداء تغطي جسدي كاملا. قد لا يستلزم الأمر طويلا ليعرف الناس أنني أجنبية، ولكنهم لا يسألونني أي أسئلة، بل يستغلون الوقت ليخبروني قصصهم التي يريدون أن يعرفها العالم كله.

الطريق إلى حلب صعبة وخطيرة للغاية، وأصبحت هناك طريق واحدة فقط يستخدمها مقاتلو المعارضة للخروج والدخول إلى المدينة. ينتشر فيها القناصة في كل مكان، وهذا الطريق يطلقون عليه اسم "طريق الموت."

ننطلق في هذا الطريق بأقصى سرعة، والخوف يلاحقنا. وقتها، تذكرت رحلة قمنا بها إلى سوريا قبل أربع سنوات، التقيت خلالها بمقاتل مع المعارضة كان يشرح لي حينها عن قنبلة استغرق صنعها أشهرا. حينها، خطرت في بالي قصة داود وجالوت. لم أعرف حينها إن كان على الضحك أم البكاء.

سعاد، سيدة سبعينية تعيش في شقة قديمة ومظلمة شرقي حلب. تقول لنا: "أولا، فقدت حفيدي، ومن ثم قتل ابن عمه، وابني، وابن ابنتي، وابني الأوسط، وأحد أبنائه، ولحقهم ابني الثالث وابنه. كلهم ماتوا على الجبهات الأمامية، وأحمد الله كثيرا على ذلك."

مجموعهم ثمانية، أي عقل بشري يستوعب هذه الخسارة، التي وبرغمها، لا ترى أي دموع على وجه سعاد، فالحزن تحول إلى تقبل للواقع الأليم.

بينما كانت تتحدث إلينا، كان حفيدها يجلس إلى جانبها. يبدو في الأربعين من عمره، ولكنه لا يتجاوز العشرين عاما. لحيته طويلة، ويرتدي ملابس عسكرية تساعده في التخفي. يقاتل هذا الشاب في صفوف "أحرار الشام". تحارب هذه الجماعة على ثلاثة جبهات: الأولى ضد الجيش السوري، والثانية ضد تنظيم داعش، والثالثة ضد القوات التركية.

حينما تحدثنا إليه، يزيح الشاب نظره خجلا. للبعض، قد يكون ذلك تعبيرا عن التجاهل، ولكن أنا أعرف عميقا في داخلي أنها دلالة على الاحترام.

فكرت في نفسي: "ماذا ستفعل هذه العجوز في حال قتل هذا الشاب؟ فهو على ما يبدو آخر ما تبقى لها." أجابتني هي على الفور: "سأبقى هنا إلى أن أموت."

الدكتور فراس الجندي لا يملك الكثير من الوقت للجلوس معنا، وسرد الحكايات التي عاشها، فهو واحد من الجراحين القليلين الذين لا زالوا يعملون في في مستشفى معرة النعمان، وهو المستشفى الوحيد الذي بقي صامدا، بعد أن قصفت الغارات الجوية مستشفى مرتبطا بمنظمة أطباء بلا حدود، أدى إلى مقتل ٢٥ شخصا.

يقول الجندي إنه يعالج أكثر من ١٠٠ حالة في اليوم الواحد. شعره أبيض ودوائر سوداء تحيط بعينيه، ويبدو وكأنه لم يعد قادرا على التفكير بشيء بعد اليوم.

يقول الدكتور الجندي إنه لم تعد هناك أدوية كافية، وإن المياه أصبحت غير نظيفة وغير صالحة للاستخدام. ويؤكد الجندي أن الغارات الجوية الروسية والتابعة للجيش السوري تستهدف المستشفيات بشكل خاص لإرغام الناس على الهرب.

أسأله: "لماذا لا تترك سوريا؟" يجيبني بالقول: "لو فعلت ذلك فهذا يعني أن ضميري قد مات." ويبدأ بالبكاء بصمت.

يتابع الجندي بالقول: "هذا بلدنا، ولن نتخلى عنه. إن نحن تركناه، فهذا يعني أننا بعنا مبادئنا. من سيعالج الناس إن نحن غادرنا؟

حينها فقط، بحثت عن كفاي اللتان تيبستا من هول المشاعر أمامي. بحثت عنها لأكفكف دموعي التي بدأت تسيل على خدي.

هذه هي الشجاعة التي تدهشك. قبلها بيوم واحد، التقينا بمحام نجا من غارة جوية استهدفت مبنى المحكمة. قال لنا: "هذا هو الثمن الذي ندفعه لقاء عيشنا في منطقة محررة.

الأسد وروسيا يقولان إن هذه حرب على الإهاب، ولكن على الأرض، الواقع مختلف، فالناس هنا يعتقدون أن الحياة اليومية هي المستهدفة.

فيما أنا في السيارة، أنظر من وراء نقابي إلى الطريق. أقرأ لافتة تقول: "الديمقراطية هي ديانة الغرب."  هناك لوحات أخرى بالأسود والأبيض تدعو الرجال للجهاد، وتلزم النساء بارتداء الزي الشرعي وتغطية أنفسهن بالكامل.

التطرف الذي أصبح شبحا يخيم على سوريا يزيد شيئا فشيئا.

آتذكر أنني في عام ٢٠١٢، سألت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون عما إذا كان لديها تخوف من الإسلاميين والجهاديين الذين قد يستغلون الفراغ الخاصل في سوريا لملئه. حينها، تجاهلت كلينتون سؤالي.

تناقضات كثيرة على الأرض. فالجميع يرغب بالعيش بحرية وسلام، ولكنهم أيضا يرغبون بالعيش تحت حكم إسلامي. كلهم يكرهون التطرف، ولكن يبدو أن لجبهة النصرة شعبية واسعة بين الناس.

الأمر مشابه للغرق: قالها لي أحد الصحفيين قبل أعوام. إن كنت تغرق، فإنك ستلجأ لأي شخص لإنقاذك، حتى وإن كنت تكره ذلك الشخص، فهو فرصتك الوحيدة في النجاة.

هذا هو يومنا الأخير في سوريا، ونحن نقف قرب الحدود مع تركيا. "سوريا أصبحت جحيما".. هذا ما كان يدور في مخيلتي. ولكن وقوفي في بعض الأحيان تحت الشمس الدافئة أراقب أشجار الزيتون تلامسها النسمات الرقيقة، أتخيل نفسي في الجنة.

نحن على وشك المغادرة، نقدم كيسا من الشوكولاتة لرجال الأمن الذين ساعدونا. يشكرنا أبو يوسف، ويقدم لنا مغلفات مغلقة عليها أسماؤنا.

يقول لنا: "أرجوكم لا تقرؤوها إلا بعد مغادرتكم."

رحلتان في الطائرة، وبعد ٧٢ ساعة، نفتح الرسائل.

كتب لنا أبو يوسف فيها: "أتمنى أن تكون الفكرة التي تحملونها عن سوريا الآن فكرة جيدة. أرجوكم، أخبروا العالم حقيقة ما يجري هنا في سوريا."