رأي: الانتخابات البلدية 2016.. 'بيروت مدينتي' وعودة إلى تجاذبات المدني والسياسي

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
رأي: الانتخابات البلدية 2016.. 'بيروت مدينتي' وعودة إلى تجاذبات المدني والسياسي
Credit: ANWAR AMRO/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم مريم عيتاني، باحثة ومترجمة مقيمة في بيروت ، ولا يعبّر عن وجهة نظر CNN بالعربية.

-- ممّا لا شك فيه بداية أن وجود حراك مدني متحضر مثل تجربة بيروت مدينتي هو أمر يبعث الأمل على النفس ويؤكد أن الشباب في لبنان مهما كان انتماؤه واحد في سعيه للتغيير ولا يمانع لأجل ذلك في أن يحاول ويسعى ويتطوع ويمول ويحشد ويحاور. ومما لا شك فيه أيضاً أن المشهد السياسي الحزبي اللبناني بتجاذباته الطائفية ومحاصصاته التي لا يسود فيها حق ولا باطل سوى كلمة المصالح الحزبية بات أمراً مثيراً للاشمئزاز إلى أقصى الحدود، مع جمود في الخطاب وفساد على مستوى الطبقة المنتفعة والحاكمة.

لكن بالمقابل، أثبتت التجارب القريبة جداً في مصر وسوريا وتونس وغيرها أن التغيير كما يتطلب بالتأكيد حراكاً مدنياً، يتطلب أيضاً نوعاً من الوعي السياسي الضمني (tacit knowledge) وهو أمر ينحصر في الأحزاب حالياً (وهذه إيجابية تحسب للبنان لأن الدول العربية الأخرى مثل سوريا مثلاً لا يوجد فيها حتى أحزاب وتنحصر في أفراد).

وهذا ما انعكس في الانتخابات البلدية من خلال ما شهدناه من توصيف لحالات منع مندوبي أو مرشحي بيروت مدينتي من حضور الفرز، وهذا المنع أتى أحياناً نتيجة عدم اطلاع أو وعي هؤلاء المتطوعين بقوانين الانتخابات؛ حيث أن هناك آليات يعرفها بديهياً مندوبو اللوائح والأحزاب ويلتزمون بها.

أما بالنسبة لمسألة نقل الصناديق بسيارات مدنية أو قطع الكهرباء فهذه إشكاليات في الآلية قد تشير إلى تزوير لكنها ليست بالضرورة تأكيد على ذلك -- وإن كانت بالتأكيد فساداً وعدم التزام -- خاصة وأنه يتواجد في كل قلم عدد كبير من المندوبين من مختلف اللوائح ويسجلون منذ الصباح أعداد الناخبين وأرقام سجلاتهم وأسماءهم كما ترد في لوائح الشطب ثم يواكبون الفرز ورقة ورقة حيث يتوجب على رئيس القلم إبراز كل ورقة على حدة الخ. وقد أفاد مندوبون من لوائح أخرى أن لائحة بيروت مدينتي حققت أغلبية بارزة في عدد من الأقلام، وهذا شيء يبعث على التفاؤل. ولست بصدد مناقشة هذه الإشكاليات فهي كلها أمور ثانوية إذا ما قارنها بحجم الأمل الكبير الذي عاد إلى نفوسنا بالأمس.

نسبة الاقتراع المتدنية ليست أمراً يبعث على المفاجأة، ولا طبيعة اللوائح التي ستفوز. فالجميع يدرك أن الشريحة الشبابية التي يمكنها الانتخاب في لبنان هي بمعظمها تقيم خارجه. والشريحة الناخبة المقيمة في لبنان هي بمعظمها من الجيل الأكبر ممن يتوقع أن يكون أحد اثنين، إما تابعاً لحزب أو مستقلاً محايداً عن كل ما له شأن بالسياسة ومشككاً في طبيعة تجربة بيروت مدينتي. ولهذا فإن حصول اللائحة على ما حصدته من أصوات هو أمر إيجابي جداً.

هذا الحراك المدني الجميل قادر على الاستمرار خارج الأطر السياسية كما عرف نفسه، وهو بلا شك قادر على العمل على الكثير من بنود أجندته من دون أن يكون في المجالس البلدية، طالما أنه يتمتع بكادر متخصص متميز وبدعم شبابي واسع من مختلف المناطق. وهو قادر على الكثير من التغيير، لكن لا بد مستقبلاً من مراعاة ثلاث نقاط أساسية:

أولًا: مخاطبة الأحزاب وليس إقصائهم، لأن التجربة الحزبية في لبنان ليست تجربة سلبية بالمطلق، بل هي تجربة مجتمعية غنية ولها تاريخها وسياقها، ويمكن البناء عليها وتحسينها، خاصة وأنه على سبيل المثال الكثير من الشباب ممن لهم "تاريخ حزبي" بل وحاضر "حزبي إلى حد ما" (التيار العوني، الكتائب، القوات، الاشتراكي، المستقبل، الجماعة الإسلامية) أيدوا تجربة بيروت مدينتي، وهؤلاء الأفراد هم بين بين.

فإذا كانت ميزة الحراك المدني أنه يستثني الفوارق السياسية فليكن هذا الاستثناء شمولية لا إقصاء؛ لأن تخيير هؤلاء الأفراد بين الحراك المدني وانتماءهم الحزبي سيضعهم في تجربة تؤدي إما إلى نبذهم للسياسي (وهذا ليس أمر إيجابي بالمطلق) أو إلى نبذهم للمدني (وهذا بالتأكيد ليس أمراً إيجابياً أيضاً)، أما ضمهم فهو إثراء لتجربتي المدني والسياسي الحزبي.

وإذا كان زعماء الأحزاب والطوائف اجتمعوا على طاولة حوار لحفظ مصالحهم فإن شباب الأحزاب و"الطوائف" قادرون على الاجتماع على منصة حراك للحفاظ على مصالحهم وبناء مستقبل أفضل لهم. وبدلاً من استخدام شعار #كلن_يعني_كلن كشعار يقصي جميع المتحزبين والأحزاب بسبب فساد الطبقة السياسية الحاكمة، ليكن شعار #كلن_يعني_كلن عنواناً عريضاً يجمع الشباب وكل إنسان شريف يؤمن بالتغيير مهما كان عمره أو انتماؤه الحزبي.

ثانيًا: توسيع الحراك مناطقياً ليشمل مدناً وتجارب أخرى، خاصة وأن مساحات الحراك المدني في المناطق أقل تكلفة مادياً وأكثر تأثيراً بسبب طبيعة النسيج الاجتماعي المتجانس نوعاً ما والافتقار إلى خدمات.

ولعل طرابلس تحديداً هي إحدى المدن التي تحتاج مثل هذا الحراك وبشدة، خاصة وأن الشباب في طرابلس نشيط وواعي ويتطلع إلى تجربة مدنية سياسية جديدة مستقلة تحب هذه المدينة العريقة وتحرص عليها وعلى كل جميل فيها. وطرابلس من الناحية السياسية ثقل لا يستهان به، ووجود تجربة ناجحة في قرية واحدة سيكون رافعة في أي انتخابات مستقبلية فكيف إذا وجدت تجربة ناجحة في مدينة هي ثاني أكبر المدن اللبنانية.

ثالثًا: الوعي السياسي مطلوب وبشدة إلى جانب الوعي المدني، لأن العمل السياسي ميدان لا يغني فيه التخصص عن الخبرة والحرفة، وأحدث مثال على ذلك استقالة داوود أوغلو العملاق في التنظير الأكاديمي والسياسي لنهضة تركيا الحديثة لأنه ببساطة لم يستطع مجاراة طبيعة العمل السياسي.

وفي هذا النقطة بالذات فإن الوعي السياسي هو الأساس لوضع برنامج وآليات عمل قابلة للتطبيق، لأن وضع أهداف نظرية أمر أسهل بكثير من تنفيذها (مثلاً تنظيم أسعار الشقق والنقل الجماعي والمناطق الخضراء الخ...) خاصة وأن عنق الزجاجة في الشؤون البلدية في بلدية بيروت للأسف هو حالياً المحافظ وهو لا ينتخب بل يتم تعيينه بالتكليف.

ومن غير الصحي أن يصرّ أعضاء اللائحة على أنهم مدنيون فقط ومستقلون عن السياسة لأن مجرد مشاركتهم في الانتخابات هو فعل سياسي، ولأنه من الضروري أن نخرج من تابو وصم السياسي بالعار ومن دائرة احتكار السياسة على الزعماء الفاسدين، فليس كل ما هو سياسي أمر سيء بل السياسي أمر مطلوب ولكن يجب أن نعيد إليه رونقه الإيجابي والمليء بالفكر والتحديات والحيوية والمنافسة الشريفة.

ختاماً، لقد أضافت بيروت مدينتي لمسة نوعية على الانتخابات، وبريقاً على الروح؛ وبدلاً من أن نغرق في دوامات مثل "بتستاهلوا تعيشوا بالزبالة وبتستاهلوا تعيشوا بالفوضى  وأنتم شعب خواريف وأنتم الخ.." لنا الأيام القادمة صفحة جديدة نبني فيها على يوم أمس، فهؤلاء الـ "أنتم" هم أهلنا وجيراننا ومعارفنا، وهم حاضنتنا، وهم من تبقى في وطننا بعد هجرتنا نحن "الأسود"!. وهم المشتبثون في الوطن لأنه أغلى ما يملكون، وهم الأكثر خوفاً عليه وعلى مستقبلهم لأنهم لا يملكون رفاهية "التنقل بين وطنين"، لكنهم لا يعرفون بدعايات الفايسبوك" وبعضهم قد لا يعرف القراءة والكتابة، وبعضهم لا يعرف معنى "حقي" أو "القانون ينص على ذلك" لأن كل ما يحصل عليه من حقوق يأتيه عبر هذا الزعيم أو ذاك؛ وبعضهم لا يملك رفاهية البحث عن أخبار غير طائفية أو مشحونة لأنه ببساطة يدير التلفاز فيقدّس تلقائياً هذا الزعيم وينبذ ذاك.

 دعونا لا نقول لمن انتخب اللائحة الأخرى أن عليهم الصمت ولا يحق لهم النقد. فهم أولى بالنقد لمن انتخبوهم!. دعونا نكون وطناً ومساحة فكر ينمو ويثرى بالمشاركة. دعونا سوياً نمارس حق الرقابة وتقييم الأداء. دعونا بدلاً من التجمع على كراهية الزعماء أن نتجمع على الحب ونعتبر من التجربة المصرية حيث اجتمعوا على نبذ النظام ثم تفرقوا أمام تحدي وحدة الوطن... دعونا نتغذى على حب النقد لأنفسنا وتجربتنا بدلاً من التغذي على لوم الناخبين الآخرين والطبقة السياسية الحاكمة، فكلنا نعرف أن الحال لن ينصلح بين ليلة وضحاها.

إنه طريق طويل، لكنه يبدأ بخطوة. ..  وقد بدأ بالفعل. شكراً بيروت مدينتي!.