أحمد عبد ربه يكتب: مصر تشهد نسخة أولية من دولة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
أحمد عبد ربه يكتب: مصر تشهد نسخة أولية من دولة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"
مصري يحمل وجبات الإفطار ليسلمها لمسلمين خلال شهر رمضان في القاهرةCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

لعل السمة الأبرز لعلاقة المجتمع بالنظام الحاكم خلال السنوات الخمس الماضية في مصر هي تدهور مستويات القلق! أي أن نوعية القلق نفسه قد تدهورت من الخوف على مستقبل الديمقراطية التي بدت أنها وليدة في ٢٠١١، إلى الفزع على مستقبل أبجديات وأركان الدولة نفسها التي أصبحت مهددة بالفعل في ٢٠١٦ حتى لو اختلفنا على مصادر وأسباب هذا التهديد.

في الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٢ كانت تشغلنا قضايا مثل "التعددية الحزبية"، "نزاهة الانتخابات"، "كسر الصمت الانتخابي"، وبين ٢٠١٢ و٢٠١٣ أصبحت تشغلنا قضايا مثل "تحصين الرئيس"، "الانفراد بكتابة الدستور"، "العلاقة بين الدولة والدين"، "أخونة الدولة"، "حقوق الأقليات"، ثم بين ٢٠١٣ و٢٠١٤، تدهورت مستويات القلق إلى نسيان قضية الديمقراطية وكل ما هو مرتبط بها من مفردات، لننشغل قلقا بقضايا مثل "حقوق الإنسان"، "تغوّل الآلة الأمنية"، "الحرب الأهلية"، "العلاقات المدنية الأمنية"، "مصير سوريا والعراق"، "الإرهاب"، أما الآن فبالإضافة إلى ما سبق فنحن بالفعل منشغلين خوفا وقلقا، ليس فقط على "مدنية الدولة" ولكننا نواجه نسخ مبدئية من تغوّل السلطة على حياة المواطنين واختياراتهم تحت دعوى عبارات فضفاضة مثل "حفظ السلم والأمن العام"، "تكدير الصفو العام"، "تقوّيض دعائم المجتمع"، حتى أننا لم نعد فقط ننشغل بقانون التظاهر والعقوبات المالية أو الجنائية القاسية على المتظاهرين، بل أصبحنا نرى نسخة مبدئية من حضور طاغي لممارسات "الدولة الدينية" وسط مباركات البعض وصمت البعض الآخر.

فبعد القبض على، ومحاكمة الروائي "أحمد ناجي" بدعوى "نشر الفجور" على بعض كلمات نشرت لإحدى رواياته فى إحدى الصحف المتخصصة، فإننا رأينا ومنذ أيام قليلة فيديو نشره الموقع الإلكتروني لجريدة "الوطن"، وقد قام فيه أحد المسئولين "نائب رئيس حي العجوزة"، بحملة أمنية على بعض القهاوي في نطاق حيه، مخترقا "الفراشة" التي وضعت لتغطية مدخل القهوة، ليأمر المفطرين في نهار رمضان بداخلها إلى مغادرة المقهى قبل غلقه، ليقف أمام الكاميرا واثقا مزهوا بفعله! قبل هذا الفيديو المؤسف كانت الفتوى التي خرجت عن دار الإفتاء والتي كانت صياغتها تحريضية بشكل صارخ ضد المفطرين تسبب لغطا مجتمعيا آخر! يقال أن "نص الفتوى" تم حذفه من الموقع الإلكترونى لدار الإفتاء، ولم يتسنً لي التأكد من هذه المعلومة، التي لو صحت ففي ذلك إيجابية لا يمكن أن ننكرها لا شك، لكن يبقى نص الفتوى مشابها لنصوص فتاوى كثيرة مماثلة تخرج عن بعض العلماء لتحرض ضد المفطر علنا في نهار رمضان.

نحن هنا نشهد نسخة أولية من دولة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهي دولة لها ممارسات متنوعة في المملكة العربية السعودية وإيران وأفغانستان وبعض مناطق باكستان، ولا حاجة لنا لشرح مغبة تلك الممارسات على المواطنين حيث تحول الدين من علاقة بين العبد وربه إلى أداة للقمع والضبط والحشد والمكافأة والعقاب، بل أن المملكة السعودية قد أدخلت تعديلات هامة على شرطة الأمر بالمعروف لديها وسحبت العديد من صلاحياتها مؤخرا بعد تغوّل الأخيرة على حياة المواطنين. فلماذا نعيد نحن هذه السياسات العقيمة باسم الدين مرة أخرى ؟

***

الصيام عبادة وفرض على من آمن بالرسالة واقتنع بالدين الإسلامي وفروضه، من يصوم يعلم أن الصيام فلسفة كاملة تقوم على التحكم في الشهوات وقدرة النفس على ضبط الجسم واحتياجاته! إذن فالصيام فرض لمن اختار بإرادته الحرة وليس مدعاة للمفاخرة أو المغالبة أو فرض أسلوب حياة على الآخرين! الدين في نظر المؤمن يجب أن يكون فلسفة للعبادة والتقرب من الله، سردية تجيب على الأسئلة الصعبة المتعلقة بما وراء الطبيعة، أما أنه يتحول لأداة للبلطجة والسيطرة والإخضاع، فإننا بذلك نكون خرجنا من دائرة الإيمان الشخصي الفردي الحر الاختياري، إلى دائرة الكهنوت التي تحول الدين إلى نظام اجتماعي وسياسي للسيطرة وإخضاع الآخرين مفاخرة بالأغلبية العددية وبالسطوة الروحية، ومغالبة للمخالفين وهو ما يخلق كره للدين ولتعاليمه ونفور مستتر لا يخرج عادة للسطح بسبب الخوف فينتشر النفاق والغش والخداع وهذا هو حال مجتمعنا  اليوم فلماذا نزيد الطين بلة؟

من يفطر علنا في رمضان إما أنه غير مسلم من الأساس وبالتالي فله مطلق الحرية أن يأكل أو يشرب في الأماكن العامة كما شاء، أو أنه مسلم لديه أعذار وهي كثيرة لمن يفقه في الدين منها المرض والسفر والدورة الشهرية، أو أنه ولد مسلما وترك الدين حتى ولو بشكل غير رسمي أو أنه في مرحلة شك ويريد اختبار كل التعاليم التي كان يؤديها لسنوات حفظا ووراثة لا فهما وإيمانا، وبالتالي من حقه أن يخوض فترة الاختبار كاملة بحرية تامة وتمرد تام علنا وجهرا ويجب أن يكون آمن في كل مراحل اختباره، آمن وهو يشك ويتمرد، وآمن لو قرر ترك الدين، وآمن لو قرر العودة إلى الدين، وإلا ما معنى أنه "لا إكراه في الدين" ؟

***

فتوى دار الإفتاء أخطأت في الصياغة وكان يجب عليها أن توضح عدم جواز الإفطار عمدا في نهار رمضان للمتدينين، تاركة العبارات التحريضية جانبا لأن الأخيرة ستؤدي حتما إلى مزيد من العنف والتطرف في مجتمع هو بطبيعته مأزوم! كذلك فإن حملة حي العجوزة هي حملة غير قانونية وليس لها سند من الدستور، بل على العكس فهي أصلا مخالفة صريحة لباب الحقوق والحريات في الدستور المصري، فبأي وجه حق يكون لنائب رئيس الحي أو حتى المحافظ سلطة ضبط المفطرين أو طردهم من القهاوي أو إغلاق القهاوي والمحال؟ هذا تجاوز واضح من السلطة فى حق المجتمع وأفراده، تغوّل مستتر خلف شعارات أبوية أو أخلاقية فاسدة ومفسدة للمجتمع وللأفراد وللدين وللتدين! ثم ومع اعتراضي على المبدأ من الأساس، هل يتمكن حي التجمع الخامس أو حي الرحاب أو حتى نائب رئيس حي العجوزة هذا أن يقوم بحملة مماثلة على مطاعم وفنادق الخمس نجوم لضبط المفطرين هناك؟ قطعا لن يتجرأ لأن الموضوع لا علاقة له بالقانون أو الدستور أو الدين، ولكن له علاقة بتراتبية علاقات القوة في المجتمع، وبالتالي تحول الدين إلى أداة لقمع الأقل قوة وحظا في المجتمع لصالح الأكثر قوة وحظا وهذه الحقيقة وحدها كفيلة بخلق أجيال جديدة من الملحدين والمتمردين على تعاليم الدين ليس لأنهم اشرارا ولكن لأنهم يواجهون سلطة تريد إخضاعهم بغير عدل ولا رحمة ولا حرية وكان هذا ولا يزال الوضع في مجتمعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

***

لقد تضاءلت أحلام الكثير منا ولم تعد قضايا مثل تدهور مستويات التمثيل الشعبي ولا نزاهة الانتخابات ولا قضايا الفصل بين السلطات ولا العلاقات المدنية الأمنية تشغلنا، فهذه أصبحت رفاهيات الآن ولكننا أصبحنا نخشى ونقلق على حياتنا الشخصية، على خيارتنا الحرة في محيطنا الضيق، نرفض السلطة الدينية أو الأبوية أو الأخلاقية. وهنا المعضلة والدرس التاريخي حاضرا، فمن برر القمع والانتهاكات وجادل في أن الشعب المصري غير جاهز للديمقراطية مهللا للسلطة المنفردة باعتبارها استثناءا تاريخيا لتحديث مصر وقيادتها لم يدرك أنه في نفس الوقت كان يضحي بحريته الفردية، بخياراته الحرة في الحياة، بمجاله الخاص، فعملية رهن (تفويض) المجال العام لصالح السلطة بداعي التحديث لم تكن تعني في الواقع سوى تفويض ورهن الحيوات الشخصية بالضرورة.

إن حقا أردنا حفظ "السلم والأمن العام"، عدم "تكدير الصفو العام"، دعم "دعائم المجتمع"، فيكون علينا أن نطلق الحريات الخاصة والعامة، أن ننحى سلطة الدين وكهنوته جانبا ليكون الأخير قرار وفلسفة فردية حرة طوعية لبناء النفس وتطويعها سعيا لتعمير الأرض، أن نرفض بكل قوة أي وصاية أبوية أو أخلاقية للدولة على المجتمع، نحن مأزمون، ونتحايل على أزماتنا بمزيد من التورط في الوحل، ابدأوا الآن، افرجوا عن أحمد ناجي وإسلام البحيري وغيرهم ممن يقضون أيام شبابهم خلف الأسوار بدعوى التحريض على الفسوق والعصيان، قدِّموا ولو لمرة واحدة فرصة حقيقية تمكننا من التصالح مع ذواتنا قبل أن نتحدث عن المصالحة مع الآخرين.