مصطفى كامل السيد يكتب عن الغش بالامتحانات وأزمة القانون في مصر

الشرق الأوسط
نشر
10 دقائق قراءة
تقرير مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد يكتب عن الغش بالامتحانات وأزمة القانون في مصر
Credit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

مثلما يحدث كل عام، تحفل تقارير متابعة امتحان الثانوية العامة بأنباء الغش، والتي بلغت هذا العام آفاقا عالية لا سابق لها، وهو استخدام شبكة المعلومات الدولية –إنترنت- فى تسريب امتحانين مقدما مع نماذج الإجابة، وتكرار ذلك بعد وقت قصير من بداية الامتحان، وتعددت التفسيرات لهذه الظاهرة من انهيار الأخلاق في المجتمع، وتدهور المنظومة التعليمية، وضرورة تغيير نظام امتحان الثانوية العامة، وطبعا كان من الضروري استحضار شبح الإخوان المسلمين، أو بعبارة أشمل "أهل الشر" باعتبارهم المسئولين عن هذه الظاهرة. معظم هذه التفسيرات -باستثناء حكاية الإخوان المسلمين وأهل الشر- لها وجاهتها، ولكن الخطير في هذا الموضوع أنه يشير إلى آفة كبرى في حياتنا في كافة جوانبها، وننخرط فيها جميعا حكاما ومحكومين، ألا وهى الاستهتار بالقانون. القائمون بالغش والمتسترون عليه والمشجعون عليه كلهم يعرفون أنهم ينتهكون القانون الذي لا يسمح بالغش ويعاقب عليه، ومع ذلك لا يأبه هؤلاء بهذه الملاحظة، وطبعا سيتهمون من يثيرها بأنه ساذج، لا يفهم شيئا، أو ينصحونه بأن يلتزم هو أو هي بحكم القانون ويتركهم في شأنهم.

***

المصريون جميعا حكاما ومحكومين يستهينون بالقانون. والأمثلة لا تعد ولا تحصى. ولنبدأ بسلوكنا كمواطنين. تأمل كيف نتجاهل قواعد المرور أو نتفاوض بشأنها مع جنود المرور. وعندما يتحول ضباط المرور أنفسهم إلى قيادة السيارات فهم يفعلون ما يعاقبون الجمهور عليه. أذكر أني استوقفت سيارة كانت تنطلق في الاتجاه المخالف، وانبريت كمواطن صالح أنبه قائدها أنه يخالف قواعد المرور، فصاح بي ومن أنت حتى تقول لي ذلك؟ فقلت له أني أستاذ جامعة، وفوجئت برده علي: "وأنا ضابط شرطة". تأمل أيضا التشوه البصري الذي أصبح سمة ملازمة لمبانينا في العاصمة وغيرها من عدم التزام بالارتفاعات المقررة، ولا بتوحيد ألوان الواجهات حتى في نفس المنزل، وطبعا نحن نعتبر أن ارتفاع المنزل أو لون واجهة كل شقة أمور خاصة لا تعني سوى من يقطنها، وذلك رغم أن هناك قوانين خاصة بارتفاعات المباني. وأخيرا هناك قوانين الضرائب، والتى لا يخضع لها في مصر سوى العاملين بالحكومة والهيئات العامة المغلوبين على أمرهم، إذ تقتطع منهم الضرائب عند المنبع قبل أن يتلقوا مرتباتهم أو أجورهم. أما سلوك حكامنا، والذي يفترض أن يكون القدوة فحدث عنه ولا حرج. ولنبدأ بالدستور أعلى القوانين، ولعل القراء يذكرون أن الرئيس وصفه بأنه قد صيغ بنوايا طيبة، وأن الدول لا تدار بنوايا طيبة. وتحمس أنصار الرئيس في مجلس النواب حتى من قبل أن يبدأ المجلس جلساته، وتكررت أحاديثهم عن عزمهم على تعديل الدستور الذي يضيق في رأيهم من سلطات رئيس الجمهورية. توقف هذا الحديث عن تعديل الدستور، فمن الواضح أن رئيس الجمهورية يمارس كل ما يريد من السلطات سواء توافق ذلك مع الدستور أو لم يتفق. الرئيس مثلا لم يصرح بمقدار ثروته رغم مرور عامين على توليه منصبه، وكان يفترض أن يصرح بذلك عند بداية رئاسته وفي ختام كل عام من هذه الرئاسة( المادة 145)، ورغم أن الدستور ذكر في مادتين على الأقل أن القاهرة هي عاصمة الدولة وهى مقر حكومتها ومجلس نوابها (المادتان 222، 114) ومع ذلك يخرج علينا وزير الإسكان كل يوم تقريبا بأنباء الإستعدادات لنقل الوزارات ومجلس النواب لما يسمي بالعاصمة الإدارية خلال عامين دون أن يحظى قرار إنشاء هذه العاصمة بأى مناقشة حتي من جانب مجلس النواب الذي أكد الدستور أنه يعقد جلساته في القاهرة. قد نلتمس العذر للحكومة في عدم وفائها بالنسبة التي حددها الدستور لموازنات التعليم والصحة والبحث العلمي بدعوى صعوبة الوصول إلى هذه النسب عبر فترة قصيرة من بدء تطبيق الدستور وبالعجز الكبير في موازنة الدولة.

***

ليس هناك شك إذن في أن احترام الدستور والقانون ليس من السمات الظاهرة لشخصيتنا القومية، ولا يستطيع أحد أن يدعي بذلك ومشاهد الحياة اليومية خير دليل على بطلان مثل هذا الإدعاء. ولكن ما هو السبب في ذلك؟ وهل يمكن علاج هذا الأمر خصوصا وبعض الأصوات تتشدق بأننا نحيا في ظل دولة القانون؟ فلنقل أن ذلك هو أمل مشروع، ولكن كيف نصل إليه؟ السبب فى أننا لا نحترم القانون هو أننا مازلنا لم نغادر المجتمع التقليدى الذى يسكن نفوسنا رغم كل مظاهر الحداثة السطحية حولنا في شكل بعض أحياء المدن الكبرى، وطابع المباني وملابسنا الرسمية وأدوات انتقالنا إلخ، ولكننا نتحرك وسط مظاهر الحداثة هذه بقيمنا التقليدية، وليس بقواعد القانون الحديث. من هذه القيم "أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، و"اللي مالوش خير في قرايبه مالوش خير في حد"، وهذا إنكار لمبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق وتجاهل لمبدأ الكفاءة الذي لا تقوم بدونه دولة حديثة. ولهذا تشيع الواسطة بيننا في كل ما نسعى إليه. طبعا سوف يقفز على الفور من ينكر أن الواسطة هي الطريق للتعيين في الوظائف المرموقة التي تعد بدخل مرتفع نسبيا أو هي طريق لمناصب السلطة. أقول وأمري إلى الله أن الاعتقاد الشائع هو أن هناك وظائف محجوزة "لأبناء الناس" وقد صرح بذلك علنا وزيران سابقان –تخيلوا معي- في وزارة تسمى "وزارة العدل"، وعندما يكون تولي وظيفة ما رهنا بالنجاح في المقابلة الشخصية، فالاعتقاد العام أن الواسطة المناسبة هي شرط النجاح في هذه المقابلة. ولعل قصة انتحار عبد الحميد شتا وكان واحدا من طلبتي الموهوبين الذى قيل له أنه لن يعين في السلك التجاري بسبب أصوله الفقيرة لخير دليل على ذلك. أصبحت الواسطة طريقا شعبيا لتولي الوظائف الحكومية من خلال توريثها للأبناء، وليس في سلك القضاء وحده. طبعا كل هذه الممارسات هى منافية للقانون ولكننا نقبلها لأن روح القانون الحديث الذي يتألف من قواعد يفترض أنها موضوعية ومجردة وتهدف لتحقيق الصالح العام لم تتمكن منا بعد، ومن ثم لم يعد غالبية المواطنين المصريين يبالون بأن القانون يحظر الغش، أو يعتبر الكفاءة وحدها هى معيار تولي الوظائف العامة، أو أنه يلزمنا باتباع مسلك معين في قيادة السيارة أو يلزمنا بارتفاعات معينة في المباني.

***

ولكن لماذا أخفقنا في أن نستوعب قيم الحداثة ومنها احترام القانون وقد قطعنا قرنين من الزمان منذ بدأت الدولة الحديثة في مصر على يد محمد علي؟ لقد شغل هذا السؤال علماء الاجتماع والسياسة ردحا من الزمن ومنهم أليكس إنكلز الذي طرح عددا من سمات الشخصية الحديثة مثل الاعتقاد في قيمة العلم وإدراك أهمية الوقت والتخطيط المسبق والسعي لمعرفة ما يدور في العالم والبعد عن القيم التقليدية، ولكن المهم في تحليله هو تحديد المؤسسات التي تسهم في اكتساب هذه القيم. وإجابته على هذا السؤال تبين عمق أزمة الحداثة بما في ذلك احترام القانون في مجتمعنا لأن هذه المؤسسات هي في رأيه المدرسة والمصنع والمؤسسات الكبيرة بما في ذلك المؤسسات الحكومية.

للاسف لا تؤدى أى من هذه المؤسسات دورها المأمول في مجتمعنا. رغم تغير اسم وزارة المعارف العمومية إلى وزارة التربية والتعليم في أعقاب ثورة 1952. لم تعد مدارسنا توفر لا تعليما ولا تربية، فنظامنا التعليمي هو الأسوأ في العالم لا تقل عنه سوء سوى دولة غينيا. مع إكتظاظ الفصول في المدارس الحكومية بأعداد هائلة من الطلبة تتجاوز أحيانا السبعين في بعض المحافظات ومع المستوى المتدني لمرتبات المدرسين وسوء إعداد المباني وتفضيل الأهالى للدروس الخصوصية ومراكز التعليم الخاصة لا يمكن للمدرسة أن تؤدى هذا الدور في نشر قيم الحداثة، ولا تقوم به المصانع التى يهرب منها الشباب مفضلين العمل على مركبات التوك التوك، وذلك بالإضافة إلى تراجع معدلات نمو الصناعة وفقا لتقارير وزارة التخطيط الأخيرة. أما مؤسساتنا الحكومية فهى في حد ذاتها بأمس الحاجة للإصلاح الذى تعالت الصيحات بضرورته منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن أخفقت كل هذه الجهود لسبين مترابطين: فقدان الإرادة السياسية ومقاومة الإصلاح من داخل هذه الأجهزة ذاتها.

كنت على وشك القول أن نقطة البداية في التمسك بقيم الحداثة واحترام القانون عموما والذى يحظر الغش هو بأن تضرب النخبة الحاكمة المثل، ولكن قرأت خبر إعتذار رئيس لجنة الثانوية العامة في البداري عن الإشراف على اللجنة التى شهدت تحويل 120 طالب من أبناء ضباط الشرطة والقضاء والجيش إليها قبل الامتحان بفترة قصيرة، وكان سبب إعتذاره رفضه لما توقع أن تكون اللجنة مسرحا لغش جماعي لا يقدر على وقفه. سأكتب للبرفيسور إنكلز أقول له أن الطريق للحداثة واحترام القانون يمر بالنخبة الحاكمة، فهي العقدة وهي الحل