رنا الصباغ تكتب: صحافة الاستقصاء تصمد في العالم العربي رغم القمع

الشرق الأوسط
نشر
12 دقيقة قراءة
تقرير رنا الصباغ
رنا الصباغ تكتب: صحافة الاستقصاء تصمد في العالم العربي رغم القمع
الصحفي المصري مصطفى المرصفاوي يفوز بجائزة أريج للتحقيق الاستقصائي‬‫ (فئة المرئي - طويلة) عن تحقيق ‬"‫موت في الخدمة" Credit: FACEBOOK/ ARIJ

هذا المقال بقلم الصحفية رنا الصباغ، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظر كاتبتها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

في يوم قائض من أيام أغسطس/ آب 2004، جلس إعلاميون عرب ودنماركيون حول نافورة رقراقة وسط باحة منزل عتيق في دمشق، وهم يتناولون عصير ليمون طازج لإطفاء عطش الصيف.

لم تخطر ببالهم آنذاك مسارح القتل والاضطرابات التي عصفت لاحقا بالعالم العربي وطوّقت دوله بدءا من ربيع 2011.

لكنهم كانوا يمتلكون رؤية لإطلاق مشروع إعلامي عابر للحدود على أمل إحداث تغيير سلمي في المجتمعات العربية؛ الموبوءة بسوء الإدارة، الفساد والمحسوبية. وهكذا ولد برنامج صحافة الاستقصاء بتمويل دنماركي بهدف تعزيز مبدأ الرقابة والمحاسبة، إشاعة حرية الرأي ودعم الإعلام المستقبل. كانت تلك محاولة جسورة لري الأرض العطشى للحرية في المنطقة.

وبعد استعراض عدد من الأسماء المقترحة للمولود الجديد، استقر رأي المجتمعين على (أريج)؛ وهو اختصار لعنوان مركب بالانجليزية: (إعلاميون عرب من أجل صحافة استقصائية). ويعني أيضا رحيق الورد.

بعد عام، عقد الروّاد أول اجتماع لمجلس إدارة الشبكة في عمان، واتفقوا على أن تعمل (أريج) -على مراحل- على ترويج ثقافة صحافة الاستقصاء الممنهج في غرف الأخبار وكليات الإعلام من خلال برامج مدروسة لبناء قدرات الإعلاميين والإعلاميات، شحذ مهاراتهم ورفع كفاءاتهم.

وقررت (أريج) أيضا مساعدة الصحافيين في التركيز على قضايا تهم المجتمع، ووضعت ترسيخ الديمقراطية وسيادة القانون على رأس الأولويات. على أن الشبكة وأعضاؤها الأول تحركوا بحذر شديد. ففي الدول التي تضع قيودا مشددة على الإعلام، كان النبش والتقصي يقتصران على مواضيع "آمنة" في قطاعات الصحة، البيئة والتربية والتعليم إلى جانب مشاكل المستهلك وقضايا المرأة.

وبفضل التمويل الأولي القادم من البرلمان الدنماركي، تمكنت شبكة (أريج) من إطلاب برامج تدريب/ تأهيل إعلاميين وإعلاميات، إشراف، تمويل ثم مساعدتهم على فحص محتوى التحقيقات قانونيا قبل النشر/ البث من أجل تلافي المخاطر. ووضعت مؤشرات لقياس الجودة والتميز على امتداد المشروع.

في البدء، تعاقد المجلس مع مديرة تنفيذية لإدارة المشروع في الأردن، سوريا ولبنان؛ ثلاث دول متجاورة بمناخات سياسية وإعلامية متفاوتة. ثم تمددت الشبكة إلى دول عربية أخرى، وصولا إلى تسع الآن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبدا التغيير – التغيير الإيجابي- في متناول اليد لفترة ما.

في الأردن وسوريا، كان زعيما البلدين قد أطلقا وعودا بالإصلاح بعد ورثا القيادة عن والديهما. وانتشرت كالفطر مؤسسات إعلامية خاصة وسط مناخ من الانفتاح.

ومن مكتبها المكون من غرفة واحدة بعمان، شرعت أريج في غرس بذور الاستقصاء عبر دول المنطقة. بحلول 2008، كانت الشبكة قد توسعت لتشمل مصر ثم البحرين فالعراق، فلسطين، اليمن، وتونس.

اليوم، تحتفل (أريج) بإطفاء شمعتها العاشرة وقد انتشرت أفقيا وعموديا في تسع دول عربية.  وتخطط الشبكة لمواصلة التوسع في السنوات المقبلة، والعمل مع صحافيين/ صحافيات مستقلين وشبكات استقصاء محلية.

لكنها سبق أن حقّقت إنجازها الجوهري؛ وهو إطلاق صحافة استقصاء ممنهجة في منطقة كانت تخلو من هذا التقليد. ومنذ أن استهلت مهامها مطلع 2006، درّبت (أريج) أزيد من 1869 صحافي/ة، أساتذة وطلبة كليات إعلام على تقنيات الاستقصاء الاحترافي. وساعدت على نشر/ بث أزيد من 400 تحقيق استقصائي مؤثر في وسائط إعلام محلية، إقليمية ودولية. العديد من تلك التقارير فتحت الأبواب أمام إصلاحات ملحة، بعضها نفذ على الفور بعد النشر/ البث.

فبالتزامن مع بث تقرير أريجي، أمر الملك عبد الثاني حكومته بإجراء تحقيق سريع وحماية حقوق الأطفال ذوي إعاقات حركية ونفسية، بما يتماشى مع المعايير الدولية. وسارع الملك إلى لجم إساءات وقعت على هذه الفئة المستضعفة بأيدي مقدمي الخدمات لهم خلف أبواب موصدة.

في تونس، مرّت سنتان قبل أن تبادر الحكومة لإغلاق حضانات كانت تحضّر الأطفال المنتسبين إليها لكي يصبحوا جهاديين. ولم تتدخل إلا بعد أن أنجزت إعلامية أريجية تحقيقا عالي الخطورة يتضمن تخفيا واستخدام كاميرا مخفية ملصقة بجسمها.

ولأول مرة، تتشارك سبع جامعات عربية في تدريس مساق طورته (أريج) -من ثلاث ساعات معتمدة في الفصل- لمأسسة صحافة الاستقصاء في كليات الإعلام على نسق دليل الشبكة الإرشادي: (على درب الحقيقة). كما تستخدم هذا الدليل 20 جامعة على الأقل لتعريف الطلبة بمنهجية الاستقصاء المتقدمة. أنجز الدليل الإرشادي والمساق الإعلامي حاصد الجوائز مارك لي هنتر، الذي يدرس في جامعة (إنسياد) الفرنسية.

خلال العامين الفائتين، ساعد مكتب (أريج) للأبحاث والبيانات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عشرات الصحافيين العرب والأجانب على كشف حالات غش وفساد في المنطقة وخارجها. ولعب هذا المكتب دورا محوريا في إطار الشبكة الأممية لصحافيي الاستقصاء، في التنقيب في "أوراق بنما"؛ ضمن أضخم تحقيق استقصائي عابر للحدود حتى الآن.

عشرة صحافيين عرب على الأقل نشروا/ بثوا تحقيقات في العمق في الإعلام الأجنبي، غالبيتهم بأسماء مستعارة، كاشفين عن خفايا شبكة من شركات (الأوفشور) المسجلة في ملذات ضريبية آمنة. كما نبشوا الروابط بينها وبين حسابات بنكية مرتبطة بأصحاب نفوذ عرب وشركائهم في عالم الأعمال والتجارة.

أحد الاستقصائيين كشف كيف تمكن الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤه من التحايل على العقوبات الدولية، من خلال تسجيل شركات (شل) في جزر سيشل الآمنة ضريبيا. وأضاء صحافي آخر على ثروات كبار المسؤولين السابقين ورجال الأعمال في اليمن.

تلك كانت سابقة مهمة في التعاون بين إعلاميين عرب وأجانب لتقصي ثروات مستبدين عرب والكشف عن صفقات مالية سرية تربطهم بعالم المال والأعمال.

وبمساعدة خبراء الحاسوب وتمويل الاتحاد الأوروبي، يعكف مكتب أريج للأبحاث والبيانات على بناء قاعدة بيانات عن الشركات المسجلة، العطاءات الحكومية وتسجيلات (قواشين) الأراضي في 18 دولة عربية. ونجح أيضا في جمع وحفظ بيانات ذات صلة من مواقع الكترونية حكومية، قبل أن يمحى بعضها من الشبكة العنكبوتية. وتأمل الشبكة في الكشف قريبا عما يمكن وصفها بقاعدة البيانات الأكثر شمولية وتوفيرا للسجلات الحكومية في العالم العربي.

ويتلقى الباحثون في (أريج) ما معدله 18 طلبا للمساعدة شهريا بحثا عن معلومات، من صحافيين عرب ودوليين. هذه الانجازات تشكّل بقع ضوء وسط محيط إعلامي قاتم غير قابل للاختراق، حيث تتهاوى حرية الصحافة باضطراد منذ خمس سنوات.

في الأثناء، تتعقد مهمة الاستقصاء يوما بعد يوم ويصبح وضع أصحاب النفوذ أمام مسؤولياتهم أكثر خطورة. فالرقابة تتعمق فيما يحبس صحافيون و/ أو يقتلون ويجهز مقص الرقيب على بقايا الإعلام المستقل.

بعد الصين، باتت مصر تصنف ثانيا على سلم أكثر البلدان سجنا للصحافيين. التنظيمات المتطرفة تستهدف الصحافيين وتنل بهم أيضا. في 2015، اعتقل عناصر مما تعرف بالدولة الإسلامية صحافيا مستقلا من سورية، أثناء انهماكه بالتصوير داخل إحدى المدارس الواقعة ضمن دائرة نفوذهم. وأخضعت داعش المصور المرافق للصحافي للاستجواب، ثم جزّت عنقه أمام الكاميرا بعد أسبوع.

في ربيع هذا العام، تعرض مصطفى المرصفاوي، صحافي تدعمه (أريج) للطرد من عمله. جاء هذا العقاب بعد أن وثّق الصحافي حالات موت، تعذيب وإساءات يحدثّها ضباط بحق أفراد في جهاز الأمن المركزي.

أما (البي بي سي) التي بثت تقرير الصحافي المصري فتعرضت لهجمات شرسة شنّها أربعة مقدمي برامج حوارية مقربون من الحكومة. سهام النقد والتجريح لم توفر (أريج) كذلك.

وظل وسم (البي بي سي #مؤامره) ضد مصر Hashtag #BBC#plots  دارجا على موقع تويتر يوما كاملا.

على أن بواعث قلق الصحافيين في هذه المنطقة لا تقتصر على الحكومات. فمن يجازف بحياته وحريته يصطدم عادة بضعف صادم في التأييد الشعبي. وفي كل محطة، يجدون المواطن العربي وقد تخلّى عن الحريات الأساسية وحقوقه الديمقراطية مقابل لا شيء سوى وعود غامضة بالاستقرار والازدهار السياسي. يشاهد الصحافيون أناسا يخافون من الفوضى أكثر من القمع العربي "الاعتيادي". يرون مواطنين تقبلوا المحدّدات التي رسمها الاستبداد، وتصالحوا معها.

ليس من المستغرب إذن تراجع حرية الإعلام واستقلاله على سلم أولويات المواطنين.

إذن ما العمل؟ هل يستسلم صحافيو الاستقصاء العرب أمام مجتمع غير مؤازر وينتظرون تغير الأحوال في قادم الأيام؟ العديد منهم يصرون على أنهم اجتازوا مسافة طويلة بحيث لا يرغبون في العودة.

مع ذلك يبقى ثمن الاستمرار على النهج شاقا ومحفوفا بالمخاطر.

مصر، الأردن، تونس والسعودية سنّت قانونا لمنع الإرهاب ووضع قيودا على الانترنت، وبالتالي سدّدت ضربة شديدة لصحافة الاستقصاء. ونتيجة ذلك تهيمن سردية السلطات على الفضاء العام بينما يفلت المسؤولون بسهولة من المحاسبة.

وفوق انسداد أفق الحريات تتفاقم الأوضاع الاقتصادية التي تعقد حياة الصحافيين. معلوم أن صحافة الاستقصاء لم تكن يوما عملا مربحا، خصوصا عندما تعتمد على دعم الحكومات والهيئات غير الربحية. ونشهد الآن جفافا مضطردا في ينابيع التمويل مقابل ارتفاع كلف التقصي وبناء التحقيقات الاحترافية.

فالممولون يواجهون الآن أولويات جديدة، ليس أقلّها استفحال أزمة اللاجئين حول العالم. يبحث العالم اليوم عن مأوى وطعام ل 60 مليون لاجئ ونازح يفرّون من مناطق النزاع والانهيارات الاقتصادية، في أضخم موجة من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية.

لذلك علينا نحن معشر الصحافيين تعلم كيفية استدامة عملنا بوسائل جديدة.

لنتذكر مع ذلك أن حرية التعبير ونزاهة الإعلام يجب أن لا تكونا إضافات اختيارية في ميزان أي كان. ذلك أنهما مكونان لا يمكن الاستغناء عنهما في المجتمعات الديمقراطية؛ وفوق ذلك حماية لا بد منها في مواجهة الاستبداد وغياب القانون.

كافحنا معا لترسيخ هذه المبادئ في منطقتنا. وسنحارب من أجل استدامتها. ولا ننوي الاستسلام الآن.

بهذه الروحية، يلتئم منتدى (أريج) التاسع للصحافيين الاستقصائيين في الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2016. وسيجتمع أيام أزيد من 340 صحافيا، أستاذ إعلام وخبراء في الاستقصاء عرب وأجانب على شاطئ البحر الميت، أخفض بقعة على وجه البسيطة.

ككل عام، يناقش المشاركون- على مدى ثلاثة أيام- واقع الإعلام في العالم العربي، تعمق الرقابة وسبل مواجهة التضليل الإعلامي عبر المنطقة.  تحت عنوان: "أريج.. عقد من الاستقصاء في العالم العربي؛ نسمع، نرى ونكشف"، يتبادل الأريجيون ومؤازروهم المعرفة والخبرات، خصوصا تلك المتعلقة بتشفير بياناتهم وحماية أنفسهم في مناطق النزاع إلى جانب بناء السرد الإبداعي الذي يخطف الأبصار.

ننتظر الكثير من هذا التجمع السنوي. وهم يحتاجون دعمكم ويستحقونه.