مصطفى كامل السيد يكتب: يجب استخلاص الدروس من إخفاقات ثورة 25 يناير في مصر

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة
مصطفى كامل السيد يكتب: يجب استخلاص الدروس من إخفاقات ثورة 25 يناير في مصر
Credit: Ed Giles/Getty Images

هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

لا ينكر المراقب المنصف لمجريات الأمور في مصر أن الذكرى السادسة لثورة يناير تأتي في لحظة عصيبة لمن شاركوا في أحداث هذه الثورة ومن يؤمنون بمبادئها وكل من تصوروا أنه يمكن أن تكون انطلاقة جديدة لشعب مصر وغيره من الشعوب العربية على طريق اللحاق يتقدم بسرعة هائلة. لحظة عصيبة بالفعل فشعارات الثورة في الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية تبدو بعيدة التحقق. الحريات العامة في التعبير والتنظيم والاجتماعات العامة في تراجع، ومعدلات العمل ومستويات المعيشة تتدهور للجميع، والعدالة الاجتماعية التي أصبح ينادي بها صندوق النقد الدولي تجد حكومتنا عشرات الأعذار حتي تؤجل الأخذ بأبسط معاييرها، والشعور بالكرامة الإنسانية يتلاشى ونحن نقرأ قصة السيدة سعاد ثابت المسيحية التي اعتذر لها رئيس الدولة عن جريمة تعريتها علناً، والتي أسقطت النيابة العامة شكواها مدعية عدم كفاية الأدلة، وتعجز سلطات الدولة عن إعادتها إلى مسكنها الذي بنته لها الحكومة لأن غلاة المتعصبين يهددون حياتها لو تجرأت على العودة إليه.

افتراءات إعلام الصوت الواحد في مثل هذه الأجواء تتراجع أيضاً، أحلام من تعاطفوا مع هذه الثورة، ومنهم بعض من نصبوا أنفسهم متحدثين باسمها، فأصبحنا نسمع دعوات عن القبول بالديكتاتورية كقدر محتم علينا في الحاضر والمستقبل المنظور، ونقرأ لمن يضع آماله على أن يتم تقدم بلادنا على أي نحو، حتى ولو في ظل أوضاع غير ديمقراطية، وحتى عندما يدرك بعض من يرددون مثل هذه الدعوات أن سجل الحكم غير الديمقراطي في مصر أوكل البلاد العربية لا يوحي بقدرة غير عادية على الإنجاز، فمجرد ترديد مثل هذه الدعوات لهو دليل على اليأس من إمكان حدوث أي تحول جاد نحو أوضاع أكثر إنسانية في بلادنا، وانتشار مثل هذا الشعور باليأس يمهد للتمادي في الابتعاد عن مثل هذه الأوضاع المأمولة.

ولعلي أذكر من يلوكون هذه الأفكار بما قاله ألكسندر الأكبر بأنه لا يوجد مستحيل أمام من يبذل الجهد في محاولة بلوغه، وأضيف أن البشر يصلون إلى الممكن عندما يتطلعون إلى المستحيل. وبعبارة أخرى القبول بالديكتاتورية سينتهي بنا إلى أوضاع أسوأ منها، ولكن التطلع إلى الديمقراطية قد يؤدى بنا إلى أوضاع ليست هي بكل تأكيد الديمقراطية المثلى، ولكنها ستكون على الأرجح أفضل من أسوأ صور الديكتاتورية، وقد تؤدي مع العمل الدؤوب والجهد المتواصل إلى أوضاع أكثر إنسانية.

وفي مثل هذه الأجواء تسود في إعلام الصوت الواحد أكاذيب لا حد لها عن ثورة يناير. يرحب هذا الإعلام بكل من يقول إن ثورة يناير كانت مؤامرة. ويجاهر كل من يقولون بذلك بأنهم من أنصار الرئيس السيسي. ولا أعرف لماذا لا تتحرك النيابة العامة ضد هؤلاء، ألا يشكل ذلك طعنا في الدستور الذي أشاد بها كثورة، أو لا يعتبر ذلك قدحاً في كل أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذين مكنوها من بلوغ واحد من أهدافها المباشرة، وهو إسقاط حكم حسني مبارك. وهذه النيابة العامة التي أبهرتنا الأسبوع الماضي باكتشاف أن لاعب كرة شهير ورئيس حزب أطلق سراحه منذ شهور مع ألف وخمسمائة آخرين هم "إرهابيون" شاركوا في أعمال إرهابية مثل نشر الأخبار الكاذبة والترويج للإشاعات والتعامل في السوق السوداء للعملة وممارسة الاحتكار، وأنهم أصبحوا مهددين بمصادرة أموالهم ومنعهم من السفر، وذلك دون تحقيق معهم من أي نوع.

ولا شك أن هؤلاء الخبراء الدوليين الذين أنفقوا وقتاً وجهداً في محاولة تعريف الإرهاب، ولم يتفقوا بعد على مثل هذا التعريف، سينبهرون مثلي بهذا "الاجتهاد "الذي توصلت إليه أجهزة الاتهام في بلدنا. فلماذا لم توجه اتهامات لهؤلاء الذين وصفوا ثورة يناير بأنها مؤامرة؟ لا أتصور أن ذلك سيحدث. وطبعاً هؤلاء سيقولون إنهم يمارسون حرية الرأي، وهم يضيقون ذرعاً بمن لا يشارك آراءهم، ونجحوا حتى الآن في إبعاد من يختلف معهم من أجهزة الصحافة والتلفزيون والإذاعة، بل وينادون بطردهم من وظائفهم إذا كانوا يتولون منصباً عاماً، حتى ولو كانوا من الوزراء.

ومن العجيب أن إعلام الصوت الواحد يكرر أن ثورة يناير هي السبب المباشر فيما حدث من تردي أوضاع مصر الاقتصادية والسياسية، ومن تدهور في مكانتها الإقليمية والدولية. لا يمكن إنكار أن كل الثورات تعقبها فترات من الاضطراب وعدم الاستقرار. فقد يكون من السهل تحطيم البناء القديم، ولكن ليس من السهل تشييد البناء الجديد محله وفي فترة قصيرة من الزمن. ولكن من الذي يتحمل مسئولية التأخر في البناء، بل واستعادة الكثير من معالم المبنى القديم؟ هل هم الثوار الذين ترفعوا عن ممارسة السلطة أم أن قسماً من المسئولية يتحمله كل من مارسوا السلطة بالفعل منذ فبراير 2011 وحتى الوقت الحاضر؟

بينما وجد من ارتبطت أسماؤهم بالثورة أنفسهم إما مبعدين عن السلطة إذا كانوا محظوظين، أو في غياهب السجون إن لم يكونوا محظوظين، أو بعيدين عن العمل العام تماماً. ولكن هذا لا يعني أن يُعفي من يؤمنون بثورة يناير أنفسهم من المسئولية. هم مع كل المصريين مسئولون عن مستقبل هذا الوطن. وحتى لو كانت أوضاع العمل العام في مصر من خلال الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني لا تسمح حتى بمجرد الحلم بموجة ثورية جديدة، فإن عليهم استخلاص الدروس من الماضي القريب، والاحتفاظ بالرغبة في التغيير إلى الأفضل في مواقع عملهم وفي الدوائر القريبة منهم التي يتحركون فيها، وأن يواصلوا التفكير الجاد في القضايا التي تشغل الوطن في الحاضر أو التي لابد وأن ينشغل بها في المستقبل.

من النقد الذاتي إلى استشراف المستقبل بعض القضايا التي يجب أن تشغل المهمومين بقضايا التقدم في هذا الوطن هي استخلاص الدروس من إخفاقات ثورة يناير، وهي إخفاقات كانت شبه حتمية بحكم طبيعة ثورة ليست لها قيادة ولا تنظيم ولا برنامج واضح. ولكن انفصال القيادات في أعقاب نجاح الثورة في الإطاحة بنظام مبارك عن جمهرة المواطنين هو الذي أضعف جناح الثورة أمام القوتين الأكثر تنظيماً وانضباطاً وهما القوات المسلحة والإخوان المسلمين. هل تواجدت القيادات الثورية مع العمال وموظفي الحكومة ومع الفلاحين وهل تفهمت مطالبهم، وناضلت معهم من أجل تحقيق هذه المطالب؟ هل يكفي العمل من خلال أدوات التواصل الاجتماعي لإقامة حركات اجتماعية وتنظيمات نقابية وسياسية قابلة للاستدامة والصمود؟ وما هو البرنامج الذي تطرحه هذه القيادات على هؤلاء المواطنين؟ وما هو مدى تواجد هذه القيادات في المنظمات النقابية والمطلبية بكافة أنواعها؟

لن يمكن النجاح في تواجد تنظيمي فعال دون أن يكون هناك فهم عميق للواقع الاجتماعي المتغير في مصر، وأن ينعكس هذا الفهم في خطاب تتواصل به هذه القيادات وهؤلاء النشطاء المؤمنون بثورة يناير مع المواطنين ومن داخل تنظيماتهم. لابد أن يتصدى هذا الخطاب لثلاث قضايا أساسية. أولاها هي القضية الاقتصادية. برنامج الحكومة الاقتصادي يلقي أعباء فادحة على كل المواطنين. هذا أمر مسلم به، ولكن ما هو البرنامج البديل؟ وكيف يمكن أن تخرج مصر من أزمتها الاقتصادية في أقرب وقت مع أقل قدر من التضحيات بمستوى معيشة الطبقات الفقيرة والكادحة، وبما يحقق أيضاً توسع القطاع الخاص المنتج ورفع كفاءة ما تبقي من القطاع العام؟ كيف يزيد إنتاجنا الصناعي والزراعي والخدمي بمعدلات سريعة وكبيرة وبجودة تسمح بتصديره إلى أسواق العالم بحيث يغطى دخلنا من الصادرات ما نحتاجه لوارداتنا المتزايدة، وحتى نخرج من قبضة الاقتصاد الريعي الذي يضعنا تحت رحمة تقلبات السياحة وضغوط الدول التي يتواجد فيها عمالنا المهاجرون؟

هذه قضية تستحق دراسة متعمقة وجهوداً جادة لا تستسلم لمقولات ساذجة من قبيل أنه يجب إلغاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وإعادة توزيع الثروات. ولنفكر في درس التجربة اليونانية التي أضطر فيها حزب يساري لا شك في التزامه بصالح أغلبية المواطنين إلى قبول جرعة التقشف المرة التي طالب بها الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية.

والقضية الثانية هي مستقبل الإسلام السياسي في مصر. هل يمكن ضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي في مصر مع الإبقاء على آلاف من المواطنين قيد السجون أو منفيين في الخارج بدعوى انتمائهم إلى حركة الإخوان المسلمين؟ ألا يوجد سيبل آخر سوى الحل الأمني للحيلولة دون استمرار أعمال العنف في سيناء وامتدادها كما رأينا مؤخراً إلى بقاع أخرى في الوطن؟ هل يمكن حتى ولو علي سبيل المناقشة التفكير في سيناريو مصالحة تاريخية تضمن الحقوق المدنية والسياسية لكل المواطنين ومعها استقرار سياسي ووحدة وطنية تقوم على احترام الحق في الاختلاف؟

والقضية الثالثة هي الموقف من القوات المسلحة. لا يمكن استبعاد القوات المسلحة كطرف فاعل ومشارك في نهضة هذا الوطن. وقد استبشرت خيراً بمشروعات الشراكة بين وزارة الإنتاج الحربي ومؤسسات جامعية وشركات القطاع الخاص. ما هي الصيغة التي تضمن مدنية الحكم في مصر، وتفرغ القوات المسلحة لواجبها الأساسي في الدفاع عن الوطن، ومشاركتها في ذات الوقت في جهود التنمية بالمشاركة مع قطاع خاص حافل بالإمكانيات وقطاع عام عليه أن يقوم بالدور الرائد في دفع النمو؟ ليس من الواقعي انتظار تكرار تجربة تاريخية لم تعد الظروف التي سهلتها قائمة، ولكن الحفاظ على الحلم والاجتهاد لتحقيقه يمكن أن ينقلنا إلى أوضاع أكثر إنسانية.