أمل حمادة تكتب.. "في مديح نظرية المؤامرة"

العالم
نشر
8 دقائق قراءة
أمل حمادة تكتب.. "في مديح نظرية المؤامرة"
Credit: Fox Photos/Getty Images

هذا المقال بقلم  امل حمادة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

"يبدو أن المؤامرة تحيط بنا من كل جانب وعلى كل مستوى، ويبدو أننا ضحايا لها في كل وقت، العالم من حولنا يتآمر علينا ولا يريد لنا خيرا.. حتى أجندة البحث العلمي يبدو أنها جزء من مؤامرة كبرى على هويتنا أو حاضرنا أو مستقبلنا". هل تبدو هذه الجملة مألوفة؟ بالنسبة لي على الأقل اسمعها بشكل متكرر ودائم. ولذا قررت أن أقرأ قليلا عن الموضوع. تنقسم الكتابات العلمية عن موضوع المؤامرة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية. الأول يرى فيها ظاهرة تسود في دول العالم الثالث لانتشار التفكير القدري غير العلمي. والثاني يرى فيها قدرة تفسيرية معينة وإن لم تصل لدرجة النظرية المتكاملة القادرة على تقديم تفسير متماسك لكافة جوانب الظاهرة الاجتماعية أو السياسية. والثالث يرفع أفكارها إلى كونها النظرية (بتعريفها بالألف واللام) القادرة على تقديم تفسير متماسك خاصة في مجال العلاقات الدولية.

ترى الكتابات الرافضة لفكرة/نظرية المؤامرة أن هناك عدداً من الافتراضات الحاكمة؛ أولها أن هناك شخصا أو اشخاصا، قوة سياسية أو اقتصادية، جماعة أو مؤسسة، دولة أو إقليما ما له أفضلية على ما عداه من اشخاص أو قوى أو جماعات أو دول، ويمتلك مقومات للنجاح والتأثير فيمن وفيما حوله بشكل يهدد توازنات للقوى موجودة بالفعل.

الافتراض الثاني يتعلق بالآخر سواء كان شخصا أو قوى أو جماعة أو دولة أو إقليما والذي في محاولته للحفاظ على التوازنات الموجودة يتآمر بشكل دائم ومستمر لإفشال الطرف الأول. في واقع الأمر فإن هذين الافتراضين يبدوان كمسلمتين أكثر من كونهما افتراضين علميين. ففي هذا الكون الفسيح هناك كيانات تمتلك مقومات للتأثير فيمن حولها، وهناك كيانات أخرى لا تتسامح مع هذه المحاولات وترغب في الحفاظ على الوضع القائم. الافتراض الثالث هو أن أي فشل للطرف الأول إنما هو سبب لتآمر الأطراف الأخرى عليه. لا تبرير للفشل في اتخاذ قرار أو تنفيذ سياسة إلا تآمر الآخرين. ولا سبيل للنجاح إلا إذا توقفت المؤامرة وهو أمر بطبيعة الحال لن يحدث، ومن ثم يمكن توقع النتيجة؛ الجميع يكرهوننا ويبذلون جهدا في إفشال محاولتنا للتقدم وهو ما يفسر عجزنا وتأخرنا بالرغم من كل مقومات النجاح التي نمتلكها. النظرية بهذا الشكل تستحق الهجوم عليها من قبل الباحثين في الظواهر الاجتماعية على اعتبار أنها في حقيقة الأمر تخالف النظريات العلمية لكونها تبدأ من يقينيات وقناعات لا سبيل لاختبار صحتها، كما أنها لطالما استخدمت ستارا لتبرير الفشل من قبل الحكومات. ويرى هؤلاء الباحثون أن استخدام نظرية المؤامرة يزيد فيما اسموه "المجتمعات القدرية" أي المجتمعات التي ترى في القدر تفسيرا لكل الأشياء؛ فالنجاح مقدور كما الفشل، ولا يمكننا تغييره.

ثم وقعت تحت يدي ورقة كتبها جون أندرسون الباحث الأمريكي ونشرت في مجلة الدراسات العربية في عام 1996 تحتفي في حقيقة الأمر بنظرية المؤامرة؛ ليس انطلاقا من قدرتها على تفسير النجاح والفشل في حالات معينة، ولكن انطلاقا من كونها واحدة من النظريات التي لم تحظ بالبحث الكافي في ذاتها. يرى اندرسون أن نظرية المؤامرة لا تعترف بالصدفة، وإنما تقوم على افتراض وجود مجموعات بعينها قادرة على التحرك في الخفاء لحماية مصالحها في منطقة أو قضية بعينها. وبالتالي فالنظرية، وفقا له، تعلى من قدر الفاعلين الذين قد لا نعلمهم بالضرورة ولكنها تنفي القدرية التي يلصقها بها منتقدوها. ويرى أيضا أن النظرية يتم اللجوء إليها حال ندرة المعلومات، وهي بهذا محمودة من حيث قدرتها على محاولة توفير المعلومات من خلال قراءة الصورة الأكبر للمشهد، ومحاولة اكتشاف العلاقات والتشابكات بين الأطراف المختلفة في الظاهرة محل الدراسة، بهذا المعنى تصبح نظرية المؤامرة محاولة بشرية لاستكمال الناقص من المشهد، ولإعطاء معنى للمعلومات المتشرذمة أو غير المترابطة، أو غير الموجودة أصلا.

النقطة الأخيرة تحتاج لمزيد من التفصيل وتساهم في توضيح لماذا يزيد استخدام فكرة /نظرية المؤامرة في مجتمعاتنا. فبعيدا عن صفات القدرية التي تغلب على الثقافة العربية/الإسلامية، وتساهم إلى حد كبير في تقييد حرية التفكير والابداع (ولكن هذا موضوع آخر ويطول النقاش حوله) فعلاقة نظرية المؤامرة بنقص أو ندرة المعلومات هو أمر مهم. وقد أصدرت الأمم المتحدة في عام 1946 قرار رقم 59، والذي نص على أن "حرية الوصول إلى المعلومات حق أساسي للإنسان وأنها محك جميع الحقوق التي كرست الأمم المتحدة لها نفسها". بمقتضى هذا النص يصبح من حق الإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو طبقته الاجتماعية أو مستواه التعليمي أو ديانته التي يعتنقها، الحصول على المعلومات التي يراها ذات صلة بالقرارات التي عليه اتخاذها في حياته. بطبيعة الحال فإن هذا النص لا يعنى تطبيقا أوتوماتيكيا له، فالعالم من حولنا ملئ بالبشر العاجزين أو غير الراغبين أو غير القادرين على الحصول على المعلومات الكاملة اللازمة لاتخاذ قرارات بعينها.

غياب المعلومات أو ما يطلق عليه في العلوم السياسية بغياب الشفافية هو في حقيقة الامر ما يعطى نظرية المؤامرة قوتها في مجتمعاتنا. فلا يمكن للمواطن ان يعيش في ظل غياب للمعنى القادر على تفسير القرارات والسياسات والتحالفات المتغيرة التي تحدث بشكل متسارع من حوله. ومن ثم يلجأ للتفسير الذي يتضمن وجود قوى غير معلومة بالنسبة له لكنها قادرة على الدفاع عن مصالحها بشكل يفسر كل هذا الجنون المحيط. فتحديد المسؤول عن قتل المتظاهرين خلال السنوات الماضية، أو تحديد المسؤول عن استمرار قطع الكهرباء، أو ارتفاع الأسعار، أو انهيار الامن في الشارع، أو حتى انتشار الأفلام رديئة المستوى والمعنى هو جزء من مؤامرة كبرى قد لا نعرف مخططيها أو منفذيها ولكننا نرى آثار افعالهم حولنا. وكأن هذه النظرية تقدم لنا إجابات تبدو منطقية، وإن لم تكن كاملة.

ما يمكن قبوله على مستوى المواطنين العاديين لا يمكن قبوله بالطبع على مستوى صانعي القرار سواء في داخل المؤسسات أو على مستوى الدولة. فلا يمكن للمسؤول أن يعتذر بغياب أو نقص المعلومات عند اتخاذ قرار، ومن ثم فيفترض في صانع القرار ومتخذه أن تتوفر لديه المعلومات الكافية واللازمة لاتخاذ قرار ما. كما أنه لا يجوز له أن يبرر فشلا ما بوجود مؤامرة داخلية أو خارجية، بل لابد له أن يقوم بمراجعة دقيقة وشاملة للقرار وآليات تنفيذه ومراحله، وأن يكتشف موضع التقصير أو الخطأ ويحاسب المقصرين. قد يكون التقصير في العوامل الخارجية المحيطة بالقرار، أو في عدم الدراسة الكافية للبيئة المحيطة بالقرار سواء داخليا أو خارجيا، أو في عدد لا نهائي من الاحتمالات، لكن المؤكد أنه لا يمكن لصانع القرار أن يتحجج بوجود مؤامرة لتبرير الفشل بشكل دائم ومستمر. المؤامرة موجودة حولنا، ولكن هذا لا يبرر تصورنا أن هناك قوى في هذا العالم تستيقظ كل صباح لتتآمر علينا، أكيد القوى ديه عندها حد ثان أو حاجة ثانية يتآمرون عليها غيرنا.

نشر