مقال بقلم نيسليهان سيفيك .. "ما بعد إيبدو: هل ستحتاج اوروبا الى (إسلام أقل)؟"

العالم
نشر
12 دقيقة قراءة
تقرير نيسليهان سيفيك
مقال بقلم نيسليهان سيفيك .. "ما بعد إيبدو: هل ستحتاج اوروبا الى (إسلام أقل)؟"
Credit: Dan Kitwood/Getty Images

كاتبة المقال: نيسليهان سيفيك، كاتبة في الأيدولوجيات والحركات الدينية الإسلامية. (الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر لـ CNN)

إذا ما افترضنا ان احداث 11 سبتمبر كانت نقطة البدء لما أصاب أوروبا من هلع بسبب اعتقادهم بتحقق "صراع الحضارات"، فيمكننا القول إن الجرائم التراجيدية التي وقعت في شارلي إيبدو ادت الى زيادة مستوى هذا الهلع.  ان إيبدو، في نهاية الامر، حائزة على أهمية رمزية لها خصوصيتها.

فبالنسبة للغرب، يمثل مفهومها الصحفي المتسم بطراز المكافحة الكتابية الساخرة، اهم القيم الثقافية لحرية الافادة والعلمانية. وعلاوة على ذلك فان إيبدو فرنسية، وقد لعبت فرنسا دورا تاريخيا محوريا بثورتها البرجوازية والعلمانية من أجل تحقيق حضارة الغرب.

بناء على ذلك، اعتبر الغرب الامر من وجهة نظره، على ان هذا الهجوم من قبل المتطرفين الاسلاميين -والذين على الاغلب لا يمثلون كل المسلمين- كان ضد ثقافتهم بالذات. ولكن الغرب يؤمن بإصرار على انهم يستمدون وحيهم من الاسلام، ولم تكن ردود فعل المسلمين ايجابية حين قاموا بحرق الكنائس واحراق اعلام البلدان الاوروبية في المقابل حيث تسبب ذلك في مزيد من التأكيد على ان الاسلام دين عنف وتطرف.

انطلاقا من هذا أصبح الاوروبيون يتساءلون عن: كيف يمكن التعامل بعد الان مع الوضع؟ وكيف سيتم حماية، ليس فقط جماهيرها بل ايضا حضارتها، ازاء التحدي الاسلامي العالمي وازاء المخاطر التي قد تواجه اوروبا من الداخل والتي قد تنجم من شباب المهاجرين المقيمين فيها.

ويمكن القول باختصار: ما الذي يجب عمله مع الاسلام الان؟ إن الاندفاع نحو ايجاد حل سريع قد يوحي بضرورة فرض "اسلام اقل" اعتباراً من الان.

ولتحقيق ذلك يبدو ان هنالك موقفان:

الموقف الاول: التخلص من المسلمين والاسلام عن طريق تطبيق سياسات أكثر دقة بخصوص الهجرات وكذلك التجنيس، بالإضافة الى ممارسة تقييدات أكثر قسوة على الحريات الدينية والممارسات الدينية لها وعلى التحركات والتنقلات ذات السمات السياسية او المدنية للمسلمين.

هذا الموقف حائز على قدر كبير من التأييد الشعبي، فمثلا "بيغيدا" الالماني اقام اتصالا مع 40 ألف من "المتظاهرين ما بعد إيبدو" والذين قاموا بمسيرات تظاهرية مطالبين بعرقلة اسلمة اوروبا ومنع تنامي مجتمعاً اسلامياً موازياً لمجتمعهم في قلب بلادهم.

اما الموقف الاخر هو الذي طرحته مارين لوبين زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني الفرنسي، اي بدلا من توخي سياسة استيعاب معينة، ضرورة توخي سياسة علمنة المسلمين في فرنسا وبشكل ما تحويل عقائدهم وجعلهم منتسبون للقيم الفرنسية والمجتمع الفرنسي وبحيث يصبح الكفر لا يعاقب بعد الان بالقتل، كما بحيث يتيح للمسلمين القدرة على السخرية من أنفسهم، وان يتبنوا حقوق المرأة، وان يلوموا دينهم ويمارسوا الكياسة وان يقبلوا التنوع الاخلاقي والسماحة، وان يعتزوا بحرية التعبير، وان ينخرطوا في النقاشات العالمية بالحدود المعقولة وعبر القنوات المشروعة.

ولكن، ماذا لو كان الحل هو تحقيق "اسلام أكثر" او على الاقل "اسلام مفهوم بحق؟" والسعي الى نظرة جديدة للإسلام، ليس "اسلاما في اوروبا" بل "اسلام اوروبي"، وارساء فكرة العمل على تفهم ماهية العقيدة الاصلية. فمثلا إذا وصل الامر الى حد الكفر ما هو الذي يمليه القران على المسلمين لان يفعلوه؟ ما الذي يحتاج التغيير؟

الاسلام يمنع رسم الانبياء وصحابتهم، ولكن القران لا يحدد عقابا اجراميا لمثل هذا التصرف. من ناحية اخرى، ان الطعن في الدين امر ليس غير معروف لدى المسلمين ونبيهم -كما لم يكن غير معروفاً لدى انبياء المسيحية واليهودية ايضا.

فمثلا، عندما ذهب النبي محمد الى مدينة الطائف قرب مكة لتوصيل الرسالة (الدعوة)، لم يقف الامر عند الاستهزاء به وتعرضه للبصاق بل تعرض ايضا للرجم الى ان راقت الدماء حتى أسفل قدميه، وفي طريق عودته الى مكة جاءه جبرائيل يسأله ان كان يريد له ان يهدم مدينة الطائف على أهلها.

ولكن محمد رفض ذلك قائلا انه يفضل ان يدعو الله لان يجعل احفاد اهل هذه المدينة يعبدون ولم يكن موضوع التهكم امر غريباً بالنسبة للنبي، حيث ان بعض شعراء قريش المعروفين، كانوا يهاجمون الاسلام عن طريق الهجو في اشعارهم.

وكان جواب النبي محمد على ذلك ان كلف الشعراء من اصحابه، ومن أبرزهم حسان بن ثابت، بالدفاع عن الاسلام عن طريق الاستهزاء بخصومهم بالهجو والفكاهة على ان يتم ذلك بناء على الحقائق.

وقد كان يتحتم على الشعراء اجراء دراسات وابحاث حول عادات وتقاليد خصومهم وكذلك تثبيت نقاط ضعفهم من اجل ذلك.

رغم أن الراديكاليين المسؤولين عن قتل 12 شخص في حادثة إيبدو للدفاع عن الاسلام بسبب التحقير الذي تعرض له، الا ان النبي بنفسه لم يستلزم الشدة مقابل تعرضه للأذى والسخرية. فبالعكس قابل الامر بالحلم والعفو. فهنالك نصوص كثيرة للأحاديث تثبت ضرورة اتخاذ مواقف الانتقاد الذاتي واللوم الذاتي والعفو. ان هذه الخصال التي تشكل ذاتية الغرب امر الله بها في القران بشكل واضح، مثلا سورة الانعام الآية 108: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل امة عملهم ثم الى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون"، (هذه الآية توضح ما يجب ان يكون الموقف ازاء اجراء حرق العلم ايضا)

اذاً ماذا عن حرية التعبير؟ هل يسمح الاسلام بذلك؟ او هل حتى لديهم مثل هذا المفهوم؟ تفاجئنا حقيقة القول بان موقف الاسلام ازاء حرية التفكير والتعبير يبدو مشابها للتعديل الاول للدستور الامريكي.

ويمكن القول بشكل عام بان كلا المصدرين ينصان على ان لكل شخص حرية ان يقول "هذا هو تفكيري" بشرط ألا يتحول ذلك التفكير الى فعل او اجراء تصرف اجرامي. ولا يعني ذلك ان هذه الحرية تستوجب غض النظر عن استخدام لغة عدوانية انتقامية، فذلك يتنافى مع ما امره القران وما املاه من قيم اخلاقية تمنع التهجم والاضرار بالقيم والاعتقادات التي تعود للآخرين. وبقول اخر، إذا ما اردتم اطاعة الله، فيستوجب عليكم مراجعة افكاركم واخضاعها للتنقيح الذاتي.

إذاً، نحن لسنا بحاجة -على الاقل بما يخص السخرية بالقيم المقدسة، المحاسبة الذاتية، التسامح وحرية التعبير- الى تغيير الإسلام، فبالعكس يجب دراسة العرف والعادة بشكل اعمق وعلينا بدلا من ان نصغي الى التأويل ان نحقق في الامر.

الفهم الخاطئ للإسلام لا ينحصر على الاوروبيين فقط، الأخطر من ذلك انه يشمل المسلمين ايضا -حتى ضمن النخبة المثقفة- حيث ان لديهم افتقار للمعرفة الشاملة حول اللاهوتية الاساسية والمفاهيم الاخلاقية في الاسلام.

لا شك من ان للإسلامية الراديكالية (Islamism) اضفاءً كبيرا على هذا الوضع، هي نفسها مخطئة لدى مواجهتها لهذه الاوضاع في مختلف الحالات. فاعتبارا من التيارات التي كانت ضد الفلسفة في القرن التاسع حتى وهابية القرن التاسع عشر، والى الداعشية في يومنا هذا، لعبت الراديكالية الاسلامية بذاتها دورا كبيرا في نشوء وجهة نظر "اسلام اقل".

لقد فقدت الامة الاسلامية ادراكها ومدى اضطلاعها بمعلوماتها الاسلامية ببطء ولكن بشكل مستمر، مما أدى الى نشوء صيغة جديدة غريبة للإسلام والى تشويهه، فأصبح إسلاما ضيق الأسس، عبارة عن معلومات متراصة مستمدة تعاليمها من مراجع تافهة لا تتعب نفسها بالتفكير في ابراز قيم تقاليدها الثرية بوجه صائب. ان أكبر ضرر اصاب الاسلام جاء من جانب الاسلامية الراديكالية بسبب ردها للعقل وللتفكر الفردي (من ناحية اخرى وبخصوص مسألة الايمان يوصي القران بالسلوك رجوعا الى العقل والتحقيق العقلاني) والأسوأ من ذلك يتمثل بأن الصيغة المبسطة كانت سهلة التعميم الى حد كبير. كما انها رسخت قضيتها بشكل مقنع، حيث انها صورت لها عدوا ولخصت الدين الى بضعة مبادئ وادعت ان لديها الحل بالرغم من انها لم تحدد حتى ما هي المشكلة.

وقد لعب العلمانيون دورهم ايضا. لننظر الى تركيا مثلا، ان الذين قاموا بتطبيق الحداثة لم يقوموا فقط بإطلاق شعلة الاسلام الراديكالي عن طريق التشدد على الاسلام فحسب بل شاركوا مباشرة بإضعاف المعرفة الاسلامية ناظرين الى الدين على انه شيء خارج عن العقل، وفي نفس الوقت انتبهوا الى ان الامر مفيد عمليا حيث جددوا صيغته باختزاله الى مظاهر سلوكية، والى روحانية سطحية ومشاعر قومية. ووجهوا كل من علم التوحيد والفلسفة الدينية معا الى مقاعد التعليم والى التطبيقات العامة الرسمية بما يتعلق بالدين.

واستمر المسار على هذا النحو.  حتى بالنسبة لعلماء الاجتماع دراسة الدين تتطلب فقط الاجتماع والاقتصاد، علوم التوحيد واللاهوتية محصورة فقط للائمة. هذا النوع من التحليل يختزل الدين لان يعمل شيء استثنائي ويحول الانتباه نحو ظاهرة للإسلامية الراديكالية وسياساتها وبعيدا عن الاسلام بذاته ولاهوتيته.

اما الان فما يستوجبه الامر من اجل استرداد "اسلام أكثر"، صعب جدا لكل من تركيا واوروبا بشكل عام، سيتطلب الامر تغييرات بنيوية بما في ذلك انشاء معاهد جديدة لإيجاد المصادر التي يتضمنها الاسلام اللازمة لهدم القصور المبنية في اذهاننا عن تفهم الاسلام.

إن تولد رد فعل معاكس امر لا مفر منه حيث ان الراديكاليين الاسلاميين (والمحافظين) سوف يوجهون التهم لهذه المحاولات على انها هرطقة (بدعة)، بينما الأكاديميون الذين يصرون على رؤية الدين وكأنه "دائما جائر" سينظرون الى هذه المبادرات على انها علمنة زائفة للدين وليس بأنها اعادة تأسيس للرسالة الفعلية، وبهذا سيحبسنا الأمر من جديد داخل دائرة التفريق بين الدين والحداثة.

هذا يعني ايضا ان اوروبا والعلمانيين الملتزمين سيحتاجون لإعادة التفكير في افتراضاتهم حول الدين، وفي فقدانهم للقدرة على التمييز بين المعتقد الديني والأصولية الدينية، وإصرارهم على تقليل الدين وميلهم الى الاستبدادية التي تخلق اسلاماً راديكالياً استبدادي كصورة طبق الاصل عنها نفسها وكانعكاس ذاتي لها.

سياسة "اسلام اقل" ستشكل موقفاً مرضيا جداً للراديكاليين بشكل كامل، وإذا ما نجح الإسلام الراديكالي فسوف يعمل على القضاء على التنوع والفروق المتواجدة ضمن الإسلام وعلى ان يخلق عقيدة تبدو كقطعة مكثفة متراصة، ومذهباً عقائدياً هو في الواقع مضاد لروح تعاليم النبي محمد.  

من هنا يتضح أن خيار أوروبا يجب ألا يكون بين "إسلام أقل" ام "إسلام راديكالي أكثر" بل بين "إسلام أكثر" أم "راديكالية أكثر" أي المزيد من الاسلام الراديكالي (الاسلاموية).

في كل حال، العالم الآن معقد جداً لتحقيق الأصولية العلمانية. هذا التعقيد يتطلب منا ان نفهم بحقيقة التراثيات الدينية وليس تفهم الاسلام فقط، هذا سيؤدي بنا لأن بل نتفهم كيف نتحدى مواقف المتطرفين الذين يروجون من أجل الاختزالية.