"أريد فقط العودة".. مهاجر سري يروي رحلة العذاب من ليبيا إلى ألمانيا

العالم
نشر
10 دقائق قراءة
تقرير منية غانمي
"أريد فقط العودة".. مهاجر سري يروي رحلة العذاب من ليبيا إلى ألمانيا
Credit: Di Lauro/Getty Images

تونس (CNN)-- يوسف كدوكي شاب سوداني اختار طريق الهجرة غير الشرعية للوصول إلى أوروبا وتحقيق أحلامه بعد ما أغلقت في وجهه كل أبواب الأمل وضاقت به سبل الحياة في ليبيا مقر إقامته، لكن نهاية الرحلة لم تكن أبدا مثلما خطط لها، في هذا التقرير يشارك CNN بالعربية كافة تفاصيل رحلته.

منذ عام 2013 حسم يوسف أمره وقرّر الهجرة من ليبيا بعد استحالة عيشه في دولة تعيش أوضاعًا غير مستقرة، لكن كان يجب عليه إقناع عائلته أوّلا، فهو مازال صغيرا لم يتخطّ 17 سنة من العمر. رفض والداه في البداية فكرة هجرته، لكن بعد سنتين ومع ازدياد الأوضاع سوءًا في البلد سمحا له بالمغادرة.

وُلد يوسف في ليبيا في عائلة كبيرة العدد تتكون من 8 أفراد، قدم والداه إلى ليبيا من السودان منذ أن تزوجا واستقرا في مدن الشرق الليبي للعمل، انقطع عن التعليم من السنوات الأولى للثانوي ورغم ولادته في ليبيا إلا أنه لم يتمكن من الحصول على الجنسية وأوراق الهوية.

لم يشكل كونه مجهول الهوية إشكالًا له في نظام القذافي حيث تمتع بكل الحقوق مثله مثل الليبيين، لكن الأحداث التي عرفتها البلاد مثلّت منعرجا في حياة يوسف وجعلته يفكر في المخاطرة بحياته والهجرة للنجاة، كان يعلم إمكانية أن يلقى حتفه في رحلة العبور الغير شرعية، في المقابل يرى ببقائه في ليبيا مصيرًا أسوأ.

" تعرّضت لمضايقات عديدة من قبل الجماعات المسلحة بسبب عدم امتلاكي لأوراق إثبات هوية وسجنت عدة مرات لهذا السبب، كما تعرضت لممارسات عنصرية شديدة بسبب لون بشرتي الأسمر، عندها اقتنعت أن لا مستقبل لي في ليبيا الجديدة، قررت الإبحار باتجاه أوروبا".

قبل ذلك كان لزاما على يوسف تدبر مصاريف الرحلة، فاشتغل في محل للنجارة حوالي عام تمكن خلالها من جمع مبلغ مالي محترم، لم يكن من الصعب عليه أن يجد مُهرّباً، فهذه المهنة هي الرائجة هذه الأيام في ليبيا خاصة في المدن الساحلية المطلة على أوروبا، يكفي أن تدخل مدينة زوارة أو صبراتة وكذلك طرابلس لتجدهم يعرضون خدماتهم ويتفاوضون معك في ثمن الرحلة دون أي رقيب أو حسيب.

سافر من طبرق إلى طرابلس أين فتح بشأنه تحقيق للتثبت من حسن نواياه ورغبته الجدية في الهجرة، قبل أن ينتقل بعدها إلى مدينة زوارة أين التقى بالمهربين الذين قاموا باحتجازه حتى يحين دوره للهجرة، ورغم ما يصل إلى مسامعه من حالات غرق للمهاجرين فإن ذلك لن يردع يوسف عن مواصلة المجازفة.

 " كانت هناك مجموعات مسلحة من الجنسية الليبية والتونسية وبعض السودانيين والمغاربة، قامت باحتجازي في مزرعة رفقة مئات الآخرين من الراغبين في الهجرة والباحثين عن حلم الوصول إلى أوروبا أغلبهم من جنسيات إفريقية، كانت هناك عائلات بأكملها منهم من تجاوز عمره الستين ومنهم أطفال صغار ورضع".

أيام وساعات الانتظار كانت طويلة جداً على يوسف، فالمزرعة المحتجز فيها كانت أشبه بالمعتقل، عاش فيها أسوأ أيام حياته حيث تعرّض لمعاملة قاسية وإهانة متكررة من المشرفين عليها، كان يمنع عليهم الكلام، حتى الأكل كانت تقدم لهم وجبة واحدة هي عبارة عن قطع من البسكويت " أعتقد أن معتقل غوانتامو وما ارتبطت به من مساوئ  أفضل من هذا المكان".

بعد 10 أيام من الاحتجاز حان ميعاد سفر يوسف واقتربت ساعة الانطلاق لكن كان عليه دفع ثمن الرحلة للمهربين قبل الصعود إلى السيارة التي ستقلهم إلى الشاطئ: "دفعت 800 دولار وهذا السعر غير موحد حيث يختلف حسب الشخص والجنسية وكذلك العصابة المهربة، اعتبر نفسي محظوظا لأنني دفعت هذا المبلغ ، هناك من تجاوزت ثمن رحلته 1200 دولار".

في حدود منتصف الليل قدمت شاحنة وأقلتهم إلى لشاطئ الذي يبعد عن مزرعة الاحتجاز بعض الكيلومترات:" هي من الشاحنات المخصصة للتبريد صغيرة الحجم، تجمّدنا داخلها، كنا حوالي 50 شخصا فوق بعضنا البعض، لن أنسى هذه اللحظات  وستبقى في ذاكرتي".

الوصول إلى الشاطىء لم يكن نهاية الرحلة البرية، هناك عليهم متابعة الرحلة سيرا على الأقدام حوالي 10 دقائق في المياه ليجدوا في انتظارهم زوارق مطاطية تكفلت بنقلهم إلى المركب المخصص لرحلة العبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط، تم نقلهم دفعات على امتداد الساعتين حتى اجتمعوا كلهم في هذا المركب. 

" تم اقتيادنا إلى الشاطئ بالسلاح أطفالا ونساء ومسنين وأجبرنا على التخلص من كل أمتعتنا وهواتفنا النقالة التي احتفظوا بها لأنفسهم وذلك من أجل تفادي أي حمولة زائدة على المركب قد تؤدي به إلى الغرق في البحر".

المركب من النوع القديم و لم يكن كبيرا، به طابق واحد لكن المفاجأة غير السارة بالنسبة ليوسف أن حوالي 700 مهاجر كانوا داخله، بعد الصعود إليه تيقن أن طريقه سيكون صعبا وأنه مقدم على مخاطرة يبقى فيه احتمال الموت كبيرًا جدا، لكن أكثر ما حزّ في نفسه أن المهربين عاملوهم وكأنهم بضاعة.

" أرسل البضاعة، البضاعة وصلت، البضاعة ستنطلق الآن، هكذا كانوا يتحاورون فيما بينهم، هم كثر ويبدو أن وراءهم مجموعات قوية تحميهم يمكن أن تكون من القوات البحرية أو من تنظيم داعش، فالكل مستفيد من هذه التجارة وهناك تنسيق وتعاون بين الكل والربح مشترك".

في حدود الساعة الثالثة صباحا، أطلق القبطان وهو تونسي الجنسية محركات المركب، البحر هادىء، الطقس بارد وظلام الليل حالك، فأي إنارة من المركب قد تتسب في التفطن إلى أمره، خيّم الصمت على المهاجرين، الكل يفكر في مصيره وفي نهاية هذه المغامرة ويعانق أحلامه، وبين الحين والآخر يرتفع صوته أحدهم بالدعاء وبقراءة آيات من القرآن.

بعد 10 ساعات من بداية الرحلة، دخل المركب إلى المياه الإقليمية الإيطالية وبعد بعض الكيلومترات أوقفه القبطان في عرض البحر، لقد تم اكتشاف أمرهم من قبل الشرطة الإيطالية عندما حلقت طائرة الهليكوبتر فوقهم لتأخذ صورا للمركب وتعود أدراجها.

" بقي المركب معلقا في البحر لليلة كاملة، فقدنا الأمل من الحياة، لم يكن هناك لا أكل ولا شرب ولا أغطية وما إلى غير ذلك من احتياجات أخرى إلى أن جاءت قوارب النجدة من إيطاليا وقامت بالتدخل وإسعاف الحالات العاجلة من كبار السن والأطفال وإطعام كل الموجودين".

احتجزت القوات الحربية الإيطالية المركب القادم من ليبيا وأفرغت حمولته من المهاجرين في مركب آخر تابع للبحرية النرويجية قبل أن يتم نقلهم إلى السواحل الإيطالية ثم إيوائهم في فنادق قبل البت في أمرهم.

وعند الشاطئ كانت الصدمة الكبيرة ليوسف وخيبة الأمل، إنه في جزيرة سردينيا ، لم تكن يوما إيطاليا حلمه، فهو يرى في بريطانيا الدولة التي يستطيع فيها تحقيق طموحاته ويبني فيها مستقبله، في هذه الجزيرة أصبح مهددا بالعقاب أو بإعادة ترحيله إلى ليبيا، لكنه عازم على التشبث بحلمه.

"هربت من الفندق رفقة بعض المهاجرين الآخرين واضطرينا للمبيت في الشارع 5 ليال دون أكل وشرب ثم التجأنا إلى السفر عبر القطارات بعد أن اشترى لنا أحدهم تذاكر، انتقلنا في البداية إلى روما ثم إلى النمسا وفي محطة ميونيخ تفطنت إلينا الشرطة الألمانية واحتجزتنا لساعات في أحد السجون ليأخذونا بعدها إلى معسكر للاجئين.

يعيش يوسف الآن في معسكر إيواء اللاجئين بمدينة هانوفر ورغم أن السلطات الألمانية أمنت لهم راتبا شهريا ب 300 يورو ووفرت لهم مدارس لتعلم اللغة الألمانية من أجل الإندماج والحصول على شهائد قبل النظر في إمكانية منحهم الإقامة، إلا أنه لم يتأقلم مع هذا الوضع الجديد وأصبح يعيش حالة من اليأس والإحباط والندم.

" أنا واجهت الموت وخاطرت بكل شيء لا من أجل أن أصبح رقما إضافيا في سجلات اللاجئين بل لأصنع أحلامي وأبني مستقبلي، هنا مجتمع غريب تغيرت نظرته تجاهنا بعد الحوادث التي تسبب فيها بعض  اللاجئين ونشعر أننا حمل ثقيل عليهم".

يعتبر يوسف نفسه محظوظا بعض الشيء مقارنة بمهاجرين آخرين تحوّلوا إلى جثث جرفتها المياه أو أكلتها الأسماك، لأن رحلته انتهت به في مركز إيواء اللاجئين أين يتمتع بالرعاية والإحاطة الطبية، لكن مستقبله غير واضح ويشعر نفسه كالمعلق بين السماء والأرض وبات يشعر بالندم ويرغب بالعودة إلى ليبيا.

" لم أعد أستطيع النوم، كل ما أفكر فيه هو العودة إلى ليبيا وإلى عائلتي، تجربة الهجرة كانت مريرة ولا أنصح أي أحد بخوضها، فالأمور ليست سهلة مثلما كنا نتصورها، كل شيء موجود في ليبيا يكفي أن ترجع مستقرة".