رأي: اللاجئون السوريون ومعاناة الرعاية الصحية

العالم
نشر
9 دقائق قراءة
رأي: اللاجئون السوريون ومعاناة الرعاية الصحية
Credit: PATRICK BAZ/AFP/Getty Images
هذا المقال المشترك بقلم فادي الجردلي (بروفيسور في السياسات والأنظمة الصحية في الجامعة الأمريكية في بيروت وعضو مجلس إدارة منتدى الأنظمة الصحية العالمية) ورشا فضل الله (باحثة في شؤون الأنظمة الصحية وعضو في منتدى الأنظمة الصحية العالمية). المقال يعبر عن رأي الكاتبين ولا يعكس بالضرورة رأي شبكة CNN. يصف المعنيون بالشأن الإنساني الأزمة السورية بأنها أسوأ أزمة إنسانية في تاريخنا المعاصرة.وتشير التقديرات إلى أن عدد النازحين داخل سوريا يقارب 7.5 مليون نازح، في حين يتجاوز عدد من نزحوا إلى الدول المجاورة 4.8 مليون. وهذه الأرقام مرعبة متى ما نظرنا إليها، لكنها اليوم، في اليوم العالمي للمهاجرين، (18 كانون الأول/ديسمبر) تعكس لنا حجم فشل المجتمع الدولي في التحرك تجاه هذه الأزمة. إن سياسة عدم التحرك هي باختصار سياسة لا يمكن اغتفارها.   تقترب أزمة اللاجئين اليوم من عامها السادس، ويفاقم منها تتابع الأحداث الدامية في حلب. هي أزمة أو أزمات لا يمكن تجاهلها أكثر من ذلك، خاصة وأنها مستمرة. ويجب على قادة الدول الكبرى وجميع الدول أن يتحركوا، وأن يبذلوا أكثر من مجرد تمويل خدمات الدعم الإنساني الأساسية. يجب عليهم أن يمارسوا دورهم السياسي لإنقاذ حياة الأفراد، وحماية الأنظمة الصحية، والمشاركة في مسؤولية مساعدة واستضافة اللاجئين؛ ويجب عليهم أكثر من أي وقت مضى أن يعملوا بجد وصدق على إيجاد حل للأزمة السورية من جذورها والأسباب التي أدت إلى نشأتها.   لنأخذ كمثال حالة لبنان: دولة يبلغ عدد سكانها 4.4 مليون نسمة فقط، تستضيف أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري (1.3 مليون هو عدد المسجلين رسمياً) وحوالي 450 ألف لاجئ فلسطيني، وبذلك فإن لبنان هي الدولة التي توجد فيها أعلى نسبة من اللاجئين لكل فرد حول العالم، إذ أن واحداً من كل أربعة أفراد هو لاجئ. وهذا التدفق الضخم من اللاجئين السوريين إلى لبنان منذ 2011 شكل ضغوطاً غير مسبوقة على الأنظمة الصحية في لبنان، والتي كانت أصلاً تعاني من محدودية العرض نسبة إلى الطلب، وتواجه هذه الأنظمة اليوم التحدي الصعب لتقديم الخدمات الصحية لمثل هذا العدد الإضافي الضخم من السكان.   فيما يتعلق بالأنظمة الصحية، سعت الحكومة اللبنانية إلى التجاوب مع الأزمة بشكل رئيسي من خلال مرافق الرعاية الصحية الأولية، وتنسيق آليات تقديم خدمات الرعاية الصحية عبر جهات التزويد المختلفة. كما أسست وزارة الصحة العامة عدداً من الشراكات مع أبرز الجهات المعنية والمنظمات الدولية، وتم الاتفاق في 2015 على تأسيس 20 مركزاً جديداً للرعاية الصحية، بالإضافة إلى تقديم الدعم المباشر لمئة مركز صحي من القطاع الخاص،  وهذا رفع من قدرة استيعاب قطاع الرعاية الصحية الأولية بحوالي 40%. وبالرغم من جميع التحديات، أثبت النظام الصحي في لبنان قدرته على استيعاب الضغوط خاصة في مجالات الحد من انتشار الأمراض المعدية وكذلك منع انتشار الأوبئة، والحفاظ على المعدلات المنخفضة نسبياً لوفيات الأمهات والخدّج في أوساط اللبنانيين والسوريين.   لكن بالمقابل، إن استمرار الأزمة السورية اليوم يشكل تحدياً مضاعفاً للنظام الصحي في لبنان، فإلى متى يمكن لنظام صحي أن يستوعب هذا الكم الهائل من الضغط الذي يستمر في الازدياد؟   ولا بد هنا من التأكيد على ضرورة استمرار إتاحة الوصول إلى خدمات الرعاية الصحة ذات الجودة للاجئين السوريين، ومن هذا المنطلق، يجب التأكيد على أهمية إدراك أن قدرة الدول المضيفة على استيعاب هذه الأعداد الهائلة من اللاجئين هي قدرة هشة ومعرضة في أي لحظة للإنكسار. أما المجتمع الدولي، فقد قدم الكثير من الدعم المالي في سياق الأزمة الإنسانية، لكن هذا الدعم -على ضخامته- لم يكن كافياً لتلبية الاحتياجات والمتطلبات الأساسية لأزمة اللاجئين السوريين، خاصة بالنظر إلى أنها اليوم باتت أزمة عالمية. ونذكر مثلاً في هذا السياق أن الأمم المتحدة لم تنجح في جمع سوى 56% (4.54 مليار دولار) من المبلغ الذي أعلنته كقيمة تقديرية لتكلفة تأمين الاحتياجات الإنسانية الأساسية للاجئين السوريين في 2016 .    إن تمويل الاحتياجات الإنسانية الأساسية للاجئين أمر مطلوب وضروري، لكنه وحده ليس كافياً. فعدم تحرك المجتمع الدولي تجاه الأزمة السورية ساهم في استمرار دوامة الأزمة، وهذا الضغط أدى على صعيد الأنظمة الصحية إلى تكريس نوع من عدم العدالة في القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى أن النظام الدولي يعتبر فيما يتعلق باللاجئين أن هؤلاء اللاجئين هم مسؤولية دولية (وليسوا فقط مسؤولية الدولة التي يطلبون فيها اللجوء أولاً)، ولكن واقع الأمر  هو أن الدول النامية هي الدول التي تستضيف الثقل الأكبر من حجم اللاجئين على مستوى العالم، إذ تستضيف حوالي 80% من اللاجئين في العالم.   ومن غير المفاجئ إذن أن هذا الواقع يضع ضغوطاً غير متناسبة على أنظمة تعاني أصلاً من واقع هشّ، وهذا الضغط له عدة أبعاد، أحدها فقط هو النظام الصحي. وغالباً ما تكون النتيجة هي المزيد من التردي في الظروف المعيشية للاجئين وتقلص المساحات الآمنة لهم، خاصة وأنهم من الفئات الأكثر عرضة، مما يفاقم مزيداً من أزمة عدم قدرتهم على الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية اللائقة، وتكريس حالة من التفاوت وغياب المساواة بحق كل من اللاجئين والمجتمعات المضيفة.   وبالانتقال من الحديث عن الأنظمة الصحية في المجتمعات المضيفة، فإن مؤسسات الرعاية الصحية والمستشفيات في سوريا تواجه أزمة غير مسبوقة. فهذه المؤسسات تتعرض للاستهداف المتعمد، الذي لا يسلم منه أيضاً العاملون في قطاع الرعاية الصحية وطواقم الإسعاف، في انتهاك فاضح لاتفاقية جنيف والقانون الدولي. يأتي هذا وسط صمت دولي في أوساط المجتمع الدولي، بما في ذلك مجتمع الأنظمة الصحية، ومجتمع المعنيين بالقانون الإنساني الدولي. وهذا يشير إلى ضرورة طرح مسألة استهداف الأنظمة الصحية في النزاعات، والضغط باتجاه جعل أي انتهاك لهذا المبدأ جريمة حرب دولية وانتهاك فاضح (grave violation) ومحرّم تماماً مثله مثل استخدام الأسلحة الكيماوية مثلاً.   لقد أظهرت الأزمة السورية أن هناك حاجة ماسة إلى مقاربة عالمية أكثر شمولية ورشداً في مجال الحوكمة الدولية، خاصة فيما يتعلق بالأزمات الإنسانية. فتوفير ما يكفي من الدعم المالي والمشاركة في تبعات ومسؤوليات اللاجئين هي عناصر ضرورية ومطلوبة على الصعيد الدولي، لكن يجب التذكير دائماً أن هذه فقط حلول مؤقتة هدفها تخفيف معاناة اللاجئين والأخيرة هي فقط إحدى تجليات أزمة أكبر وأشدّ عمقاً، وهي أزمة لم يبذل حتى اليوم ما يكفي من الجهود والمساعي الجدية لوقفها.   ولا بدّ من حل الأزمة الأساسية لإيقاف هذا النزف الإنساني المستمر في الضحايا خاصة المدنيين والأطفال الذين يدفنون أحياء تحت ركام المباني. وبالتزامن مع إيجاد مثل هذه المساعي الجادة، لا بد من السعي أيضاً إلى حشد الموارد اللازمة لإعادة إعمار البنية التحتية والأنظمة في سوريا، والتخطيط لآليات عودة اللاجئين سالمين إلى منازلهم ووطنهم؛ ولا يمكن إعادة إعمار سوريا إلا بعودة أهلها وأصحابها للمساهمة في ذلك بمجرد إنتهاء الأزمة.   إن إيجاد حل للأسباب التي تؤدي إلى تهجير اللاجئين يكمن باختصار في إنهاء الأزمة السورية من خلال المفاوضات الدبلوماسية الجادة، وهذا التحدي هو التحدي العالمي الرئيسي الذي يجب على قادة العالم اليوم مواجهته. إن الانتظار مزيداً يجعل ثمن عدم التحرك بليغاً إلى حد لا يمكن اغتفاره، إن لم يكن قد أصبح كذلك اليوم. وكل يوم نتأخر فيه عن التحرك، هو يوم تزداد فيه أعداد اللاجئين والمهجرين قسراً، وتزداد فيه معاناة الأفراد والأنظمة (ليس فقط الأنظمة الصحية).