رأي.. عن معضلة الإيمان بالدولة في مصر

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
تقرير أحمد عبد ربه
رأي.. عن معضلة الإيمان بالدولة في مصر
متظاهر يحمل العلم المصري مع علامتي الصليب المسيحي والهلال الإسلاميCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

لعل واحدة من أكبر المشاكل التي يواجهها المجتمع المصري سواء على مستوى السلطة أو على مستوى المعارضة أو حتى مستوى التيارات التي خرجت من هذه المعادلة التقليدية للعمل السياسي، هي معضلة "الإيمان بالدولة"! والمقصود بذلك أنه بينما تخطت دول كثيرة في أوروبا وأسيا والأمريكتين معضلة تعريف الدولة والتجادل حول جدواها وحدودها ووظائفها وعلاقتها بغيرها من المؤسسات الدينية والاجتماعية، فإن مصر ضمن عدد أخر محدود من الدول والمجتمعات الأخذة في التحول مازالت تبحث عن إجابات لهذه الأسئلة البسيطة المتعلقة بماهية الدولة ككيان قانوني واقتصادي وسياسي واجتماعي وحدود وظائفها وأدوارها ومساحات التماس مع غيرها من المؤسسات والجماعات المنافسة.

ورغم أن ظاهرة الدولة الوطنية الجامعة هي ظاهرة حديثة نسبيا في تاريخ العالم حيث لم يتخط عمر معظم دول العالم القرنين من الزمان مع استثناءات قليلة، فإن حسم هذه الأسئلة حدث سريعا مع تبني أفكار حداثية ارتبطت في معظمها بثورات صناعية ولاحقا تكنولوجية ومعلوماتية حررت البشر من الكهنوت الديني (لا من الدين نفسه) والسلطوي بأشكاله المختلفة وأحدثت تطورات ثقافية واجتماعية حسمت إجابات بشرية على هذه الأسئلة مما دفع هذه المجتمعات للتفرغ للتنمية والتقدم والإجابة على الأسئلة الأكثر عمقا عن التنمية البشرية والبيئية والتعامل مع سيناريوهات تحديات المستقبل.

ورغم أن الدولة المصرية ضاربة بعمق في تاريخ البشرية منذ الحضارة الفرعونية العظيمة وحتى اللحظة مرورا بموجات من المد والجزر عبر تاريخها الطويل والتي تمكنت فيه من استيعاب العديد من الحضارات والثقافات التي أثرت بشدة على شكل الشخصية المصرية الحالية، إلا أن الإجابة على الأسئلة السابقة مازال محل جدل كبير وتنازع واستقطاب بين تيارين رئيسيين. يعبد الأول الدولة ككيان قانوني وسياسي يرى فيه الحامي والمعرف والمحدد للشخصية المصرية الفريدة ويقبل التضحية بالبشر في سبيل الحفاظ على هذا الكيان الذى أصبح مصدر الحماية والأمان، ويرى هذا الفريق أن الحضارة الفرعونية العريقة هي مصدر سيادة وتمايز الدولة المصرية الفريدة. وفريق أخر لا يؤمن بالدولة ككيان مستقل بذاته ويبحث عن تخطيها لحساب كيانات عابرة للدولة و تتخذ من مفهوم "الأممية" بديلا عن الدولة ككيان جامع للمسلمين قد يتطور لاحقا ليصل إلى مرحلة دولة الخلافة الحلم الذي يداعب الجميع. يعتبر هذا التيار أن الحضارة الإسلامية هي مصدر شرعية وتمايز هذه الأمة الفريدة وأن الشريعة الإسلامية هي محدد العلاقة بين المواطنين المسلمين المتمايزين بعقيدتهم وغيرهم من "أهل الذمة" كمؤمنين بديانات سماوية غير الإسلام وماعدا هؤلاء ليس له مساحة معترف بها.

***

صحيح أن هذا التصنيف به قدر من التعميم المخل والمبسط لأمور أكثر تعقيدا وخصوصا أن بين التيارين هناك تيارات أخرى متنوعة ومغايرة. منهم تيار مثلا لا يؤمن أصلا بالدولة أو الأمة ككيانات جامعة ويبحث عن حالة يوتوبية أناركية متعولمة ومتخطية لكل القيود المادية بين البشر، لكن يظل هذا التصنيف معبرا عن حالة الاستقطاب الرئيسي في مصر حول تعريف الدولة ووظائفها وحدودها.

في تقديري، فإن هذا النزاع التقليدي الذي لا ينتهي عادة بين هذين التيارين سببه بالأساس أن مصر مازالت أسيرة لنموذج دولة ما بعد الاستعمار حيث التنازع بين الأبطال الوطنيين المحررين للوطن من براثن الاستعمار وهم عادة قادة عسكريين حداثيين وقوميين حاولوا دفع قطار التصنيع والتحول الاجتماعي بتحرير طبقات العمال والفلاحين من سيطرة الاقطاعيين في الريف والمدن إما بإعادة توزيع الثروات وهوما يستلزم تأميمها  أولا، أو عبر احتكار عملية السياسة وفى قلبها صنع السياسات العامة باعتبارها وظيفة احتكارية لرجال الدولة الوطنيين وذلك من خلال تجربة الحزب الواحد والبرلمان الواحد والرجل الواحد والشعب الذي يقف كله على قلب رجل واحد! وبين التيارات الإسلامية التي شاركت في عملية التحرير من الاستعمار باحثة عن أطر عابرة للدولة وباحثة عن الخلافة أو الأممية الإسلامية من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية ورفض تطبيق أي تشريعات بشرية باعتبار أن الإسلام قدم رؤية متكاملة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى البشر المؤمنين به الانصياع التام لها وعلى غير المؤمنين به الخضوع لترتيباته أو المغادرة ببساطة.

***

قطعا كان الصدام بين التيارين حتميا وكلف ولايزال مصر الكثير من الدماء التي تسببت في تعميق الفجوة بين أبناء الوطن الواحد والتفرغ لتكتيكات صراعية تستنفذ الجهود والعقول والأرواح لتظل البلاد تدور في حلقات مفرغة من العنف والصراعات تاركة معارك التنمية والتقدم الأهم بلا اجابات! ومن هنا فلابد من تقديم رؤية مغايرة لتخطي هذه العقبات سريعا وإلا ستظل البلاد محلك سر.

أولا: لابد من إعادة النظر في مفهوم ونموذج دولة ما بعد الاستعمار، فالوظيفة الرئيسية للدولة الحالية يجب أن تتخطى فكرة "الوصاية" إلى فكرة "الحماية" وذلك بالتحول من فلسفة "المهيمن" على صنع وتشريع وتنفيذ القوانين والقرارات إلى مرحلة "الضامن" لتنفيذ القوانين والقرارات بعدل على جميع المواطنين.

ثانيا: لابد من فصل الفاعلين المعبرين عن الدولة (الأجهزة الأمنية والجيش والجهاز البيروقراطي والسلطة القضائية) عن الفاعلين المتنافسين على السلطة (الأحزاب والتيارات السياسية المشكلة والمتنافسة على السلطتين التنفيذية والتشريعية) مع إعادة صياغة دور ووظائف المؤسسة الإعلامية.

ثالثا: لا يعني هذا الفصل الجمود ولا التعسف ولكنه يعني إعادة تفصيل الأدوار وخطوط التماس بين الفاعليين الدولاتيين وبين الفاعلين السياسيين من خلال فلسفة دستورية جديدة تقوم بالأساس على فلسفة حقوق المواطن وواجباته وحرمانيه نفسه وجسده أمام الكيانات الدولاتية والسياسية المختلفة من خلال مبدأ سيادة القانون باعتباره حجر أساس السيادة والهيبة للدولة.

رابعا: لابد للتيارات الإسلامية استيعاب حقائق التاريخ والتعاطي ببراجماتية مع حقيقة الدولة القومية الحديثة بالمعنى المطروح في هذه المقالة، واعتبار أن أي كيانات غير قومية لابد أن تكون كيانات منسقة ومتحاورة ومتعاونة مع الدولة القومية لا كيانات عابرة أو متخطية لها.

خامسا: من الضروري وسط كل هذا دخول تيارات الإسلام السياسي في حوار معمق وغير مسيس بهدف تحويل الحديث عن الشريعة من مرحلة التنظير والشعارات إلى مرحلة "التأشير" أي تحويلها إلى مجموعة من المؤشرات القابلة للقياس في شكل برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تفصل بين الثابت والمؤول، بين البشري والمقدس، وتضع المقاصد عين الاعتبار، وتراعي التطورات التاريخية الحادثة في الدولة القومية والتي أضحت تساوى بين جميع المواطنين بغض النظر عن عقائدهم وانتماءاتهم العرقية بعيدا عن التفسيرات الكهنوتية الرافضة والمتحدية بعصبية غير مفهومة لحركة التاريخ والتطور والحداثة.

سادسا: لا يمكن القيام بكل ما سبق دون توافر ثلاثة شروط مسبقة. يتمثل الأول في اعتبار الدولة القومية الديمقراطية الحديثة هي محور الحديث وهم التغيير والتنمية دون تخطيها لصالح كيانات هلامية مع قبول مبدأ التفاوض والحوار والشراكة مع كيانات أخرى أممية أو إقليمية تحترم الدولة، ويتمثل الثاني في رفض مبدأ العنف والإرهاب كوسيلة للتغيير، بينما يتمثل الثالث بالتزام كل الأطراف والفاعلين السياسيين  والدولاتيين بمصر بمبدأ سيادة الدستور والقانون واعتبار أن المواطن ونفسه وجسده هو محور ارتكاز الدولة لا العكس ومن ثم ضرورة القبول بمبدأ التعددية والدمج مع كل المواطنين الملتزمين بالقانون والدستور.

***

نشعر بغصة في القلب حينما نرى دولا كانت بالأمس القريب شبيهة بدولنا بل وربما في ظروف أصعب وهى الأن تسبقنا بكثير لأنها كسرت كهنوت السلطة والدين والمجتمع وأعادت تعريف العلاقة بين أطرافها في إطار عملية تفاوضية تعددية ندية بين الفاعلين المختلفين فأدركت ركب التقدم والتنمية والرفاهة بينما مازلنا ندور في غياهب الصراعات الصفرية، فمتى نبدأ ونكسر محرمات صنعناها بأنفسنا ثم أضحينا نعبدها من دون الله؟