إكرام لمعي يكتب.. "عودة الحروب المقدسة "

الشرق الأوسط
نشر
8 دقائق قراءة
إكرام لمعي يكتب.. "عودة الحروب المقدسة "
Credit: Putu Sayoga/Getty Images

هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

تعبير " الحروب المقدسة " تعبير متناقض في ذاته. فالحروب تعنى عداء وضغينة ورفض للآخر بل وانتقال هذه المشاعر من الذهن والضمير إلى الواقع الفعلي وذلك بقتال العدو وسحقه بكل وسيلة ممكنة. ومن أهم ما تعلمناه من فلاسفة الحرب تعبير " شيطنة العدو "، أي لكي تجعل جيشك لا يتخاذل في القتال ولكي يصبح مستعداً لأن يموت في سبيل المبادئ التي يقاتل من أجلها هي أن تنجح في تحويل العدو في نظر جنودك إلى شيطان رجيم. يجب عدم مهادنته بل قتاله حتى يفنى من الوجود، لأن مجرد وجوده شر وخطيئة وعامل انتشار الفساد والالحاد والكفر في العالم. لذلك نجد أن إدارة الشئون المعنوية الملحقة بالجيوش لرفع معنويات الجنود تحرص على استضافة رجال دين من المشهورين ولهم شعبية ضخمة ومصداقية ليقوموا بمثل هذه المهمة خاصة اثناء الاستعداد للحرب وهوما فعله جورج بوش أثناء غزوه للعراق وما فعله صدام في مواجهة الجيوش الامريكية وما فعله عبد الناصر والسادات في الحرب ضد الصهاينة وما فعلوه الصهاينة في حروبهم ضد العرب.

 والسر في ذلك ان رجال الدين هم وحدهم القادرون على استخدام الكتب المقدسة لتكفير وشيطنة العدو. والذي يدعو للعجب بل والسخرية أنها نفس الكتب المقدسة المستخدمة على الناحيتين (التوراة والانجيل والقرآن) فكيف يكون هذا؟ فالعدو ليس عدواً فقط لأنه يعتدي على الوطن ويريد ثرواته أو السيطرة والتوسع فكل ذلك لا يكفي لدحره، لكن المطلوب من أصحاب القرار السياسي أن يصبح العدو عدو الدين بجوار عدائه للوطن. وهذا يعني أن لا دين له حتى لو كان ينتمي إلى دين ما، فهو يفهم دينه خطأ، بل هو كافر وملحد حتى لو كان يدعى أنه يهوديا أو مسيحيا أو مسلما، حتى لو رفع في حربه التوراة أو الإنجيل أو القرآن، لأن الذي يحاربهم هو الذي يدرك المعنى الصحيح للكتب المقدسة، واعدائهم هم المدعون بالدين.

هكذا نجد أن الجماعات المتطرفة تدعى أنها تملك الإسلام الصحيح وتحارب لأجل رفعته والدول التي تحاربها تدعى نفس الادعاء. كذلك الموقف بين الشيعة والسنة؛ ففي الحرب بين صدام والخوميني في الثمانينات من القرن الماضي قام صدام بزرع الغام بطول الحدود حتى لا يتقدم الجيش الإيراني وهنا قام الامام الخميني بإلقاء خطبة الجمعة طالباَ من مستمعيه أن يقدموا أطفالهم ليسيرواعلى الألغام فداءً للجيش، وكان يضع في رقبة كل طفل سلسلة بها مفتاح الجنة. وقد حدث ذلك بالفعل واكتشفوا فيما بعد ان هذه المفاتيح محفورعليها (صنع في كوريا). وعندما دخل بوتين دائرة الحرب رفعت الجماعات المتطرفة وصحفها والفضاء الإلكتروني إتهام بوتين بأنه شيوعي لا دين له (وهذه حقيقة) والدين يدعو الى محاربته وهزيمته إلا أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية سارعت بإصدار بيان باسم البطريرك كيريلوس أعلنت فيه دعمها الغارات التي تنفذها المقاتلات الروسية في سوريا واعتبرت أن حرب بوتين "حرب مقدسة " ضد الإرهابيين، وهكذا وكأن الكنيسة تدعم النظام الشيوعى وتعتبره مقدسا في تحالفه مع الأسد و إيران و حزب الله وهذا هو الحلف المقدس مقابل الحلف الشيطاني الذي تمثله الجماعات الإسلامية على أرض سوريا ومن يدعمها من دول عربية وتركيا وأقليات علوية وزيدية وأكراد ومسيحيين.

هكذا تدخل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كطرف في حلف سياسي وطائفي في المنطقة. هذا المنطق ليس جديدا وأول من قام به في العالم المسيحي كان الإمبراطور قسطنطين إمبراطور روما الذى اعتنق المسيحية نتيجة حلم ادعى أنه قد حلم به إذ رأي صليبا وسمع صوتا يقول له "سوف تنتصر بهذه العلامة " وهكذا أعلن في الصباح أن المسيحية ديانة تابعة للإمبراطورية وأرسل في أرجائها أمراً أن ترد للمسيحيين بيوتهم و أملاكهم والمسجونون منهم يحررون ويسمح لهم ببناء الكنائس وحرية العبادة، وعندما اختلفت الكنيسة الغربية مع الكنيسة الشرقية في القرن السادس حول طبيعة السيد المسيح حيث آمنت الكنيسة الشرقية بأن المسيح له طبيعة واحدة و مشيئة ( إرادة ) واحدة إلهية إنسانية لم ينفصلا إطلاقا وهما ممتزجتان وآمنت الكنيسة الغربية أن السيد المسيح له طبيعتان و مشيئتان طبيعة إلهية وإرادة إلهية وطبيعة إنسانية وإرادة إنسانية وهاتان الطبيعتان لم تمتزجا وبالتالي فالذي تألم و جاع و تعب و نام ... إلخ هو الإنسان يسوع بن مريم العذراء و ليس الله. إلا أن هذا الاختلاف الذي لا يمكن حسمه لأنه غير مرئي دعا فيه قسطنطين لحرب مقدسة ضد الكنيسة الشرقية فشرد البابا بينيامين وهدم كنائسه وأعطاها للأقلية التي تؤمن بالطبيعتين وقد أعاد عمرو بن العاص البابا بنيامين إلى كرسيه بعد دخوله مصر. ثم كانت الحروب الصليبية في القرون الوسطى حروباً مقدسة بادعاء تحرير القدس والأماكن المسيحية المقدسة وبالطبع كان هذا الادعاء لا علاقة له بالواقع لكن بسبب حروب الأمراء في أوروبا بين بعضهم البعض والأزمة الاقتصادية الطاحنة جيّشوا الجيوش ورفعوا الصليب ليقتلوا به الآخرين بادعاء الحرب المقدسة.

وفي العصر الحديث رحب المسلمون والمسيحيون بدور البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان الاسبق في تحالفه مع رونالد ريجان رئيس أمريكا  لإسقاط الشيوعية والاتحاد السوفيتي و قام البابا يوحنا بزيارة بولندا مسقط رأسه ليؤيد ثورة العمال لإسقاط الشيوعية و تأييد فاليسا قائد الثورة في ذلك الوقت وقد اعتبر العالم المسيحى والإسلامي أنها حرب مقدسة ضد الشيوعية والإلحاد و كان نتيجة ذلك أن قيادات الحزب الشيوعى الملحد في روسيا قررت التخلص من البابا يوحنا فقامت المخابرات السوفيتية بإرسال عنصرا مدربا من تركيا يدعى محمد علي أقجا أطلق النار عليه في بلدة فاطمة في البرتغال وأنقذ بأعجوبة بعد عملية جراحية صعبة استمرت لخمس ساعات، و قام البابا بعد شفائه بزيارة المتهم في السجن وبعد الزيارة أعلن العفو عنه. ولقد بدأ البابا يوحنا في التوسط لحل الأزمة الأمريكية الكوبية وقد استكمل جهده البابا فرنسيس الثاني مما دعا أوباما رئيس الولايات المتحدة لتحطيم كل البروتوكولات واستقبال البابا في المطار خاصة بعد تصريح ترامب المرشح لرئاسة أمريكا بأنه يرفض أن يرأس أمريكا رجل مسلم أومن أصل إسلامي وأيضا بعد تأييد أوباما لزواج المثليين مما أثار المحافظين الدينيين عليه خاصة القس بيللى جراهام أشهر رجل دين أمريكي وكان مستشاراً لجورج بوش أثناء غزو العراق والذى في تعرضه لتشجيع أوباما للمثليين و زواجهم صرح قائلاً : " علينا إذن أن نطلب من الله الاعتذار لسدوم و عمورة " و هما مدينتان اشتهرتا باللواط فأرسل الله ملائكة أخرجت لوط و عائلته من المدينة و تم إحراق من فيها من بشر وحيوانات وزرع.

أليس من الغريب أن نرى في بلادنا رموزاً دينية تؤيد القرارات السياسية فتعطيها الصبغة الدينية وعندما يسألون يقولون "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" وأن هذا نوع من الوطنية. عزيزي القارئ هل عادت الحروب المقدسة إلى عالمنا المعاصر أم أنها لم تفارق البتة ؟!