رأي.. بارعة الأحمر تكتب لـCNN: لبنان: بين الموفدين الدوليين وتناقضات انتليجنسيا الثورة

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة

هذا المقال بقلم بارعة الأحمر، صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

بحذر شديد تتجاوز مجموعات الثورة المرحلة الانتقالية ما بين قرابة الفوضى وحركة محمومة تراوح بين التواصل والتنسيق والإتلافات. ويأتي هذا في ظل تذوق الشعب اللبناني طعم الانتصارات التكتيكية من جهة، ومرارة الخسارات التي طالت لبنان في الدم المهدور لمدنيين أبرياء.

ومنذ انفجار المرفأ الذي دمر بيروت وشرد أهلها، وبدا كأنه كسر العزلة الدولية للبنان، تطالعنا روايات متناقضة عن لقاءات تجمع بين مسؤولين دوليين لعواصم القرار، وممثلين عن المجتمع المدني، يظن البعض أنّها تُعطي دفعًا للثورة وللثوّار، في حين أنها لا تعدو كونها حيثيّات واهية.

وأرى أنه من الضروري إزالة أيّ لُبسٍ حول هذه المسألة، إذ لا بدّ من بعض الأسئلة: مَن هي الأطراف اللبنانية التي تلتقي الشخصيّات الدوليّة؟ كيف يتمّ اختيارها؟ مَن تُمثّل؟ هل هي مفوّضة لتَمثيل المجتمع المنتفض؟ ما مدى قدرتها على التأثير في المفاوضات، وتاليا قدرتها على الالتزام بالمكاسب التي تحقّقها إذا ما وُجدت؟

تحتاج الإجابة عن هذه الأسئلة، تَوصيفا لواقع الثورة، انطلاقا من تحرّكاتها الأخيرة، لاسيّما تلك التي حصلت في 6/6 و8/8 و1/9/2020. ذلك أنه تمت تلبية الدعوات، وبرامج التحركات المحددة أو المقترحة، من قبل أعداد كبيرة، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة والدعوات لالتزام شروط الوقاية من جائحة "كوڨيد 19" المنتشرة في البلاد.

إلا أن المظاهرات، وفي الدعوات الثلاث، خرجت عن البرنامج المنظّم، وأفضى التحرك في الشارع إلى مواجهات عنيفة مع القوى الأمنيّة، ولهذا دلالات واضحة: هناك أمرَي مهمّة يَصدران في الوقت نفسه، واحد علني سلمي تلتزم به قلّة من أفراد المجموعات الداعية للتحرّك، وآخر سرّي "عنفي" تلتزم به أكثريّة ثوار الميدان. فهل هذا منسّق؟

أغلب الظنّ أن لا، ليس هناك تنسيق بين أمرَي المهمة. وما يعزز هذا الاحتمال هو إعلان أكثر من مجموعة منظِّمة، وَقْف نشاطها التنظيمي، بسبب ما وصفته بِـ "أعمال الشغب" خلال التحرّكات التي تدعو إليها.

والخلاصة: هناك فريقان يتحكمان بالثورة، وإن بأدوار مختلفة ومتفاوتة!

فريق اوّل يتحرّك في العلن، ويستميتُ أفراده للوصول إلى السلطة.

وفريق ثانٍ يثابر بصمت على تعزيز الثورة وحمايتها لإيصالها إلى السلطة.

الجامع الوحيد بين الفريقين هو أنّهما لا يجتمعان، فهما مثل خطّين متوازيّين لا يلتقيان لا بالفكر ولا بالتكتيك ولا بالأهداف.

أسلوب الفريق الأول معروف وقد اعتدنا عليه، هذا ما يفعله: يرفع الصوت، ثمّ يُطبّع ويختفي، ليعود ويظهر من جديد في أول مناسبة. ويتحالف مع الفشل، في كلّ مناسبة. يُطلق الشعارات الرنّانة من دون تحميلها أيّ مضمون، يتحوّل بسهولة إلى أداة بيد أجهزة السلطة، فينحرف، ينقسم على نفسه، ثمّ، ومن جديد.. ينام! معضلة هذا الفريق الأساسيّة أنّ مخيّلة القيّمين عليه محدودة، ينقصها الإبداع في الطروحات. بِدءًا من استعارة شعارات ستينيّات القرن الماضي، وصولًا إلى التركيز على "القبضة" التي تناقلتها كل الثورات في العالم.

إلا أن الأخطر، أنّ القيّمين على الفريق الأول لا يتمتّعون بالخبرة في استخدام الأدوات التي تساهم في إنجاح أيّ تحرّك. للأسف، هكذا كان يوم حلّت على اللبنانيين مصيبة النفايات عام 2015، وهكذا كان عندما خاضَ هؤلاء أنفسهم الانتخابات النيابيّة في الـ 2018، وحين التحقوا بالثورة عام 2019، وهذا ما سيكون في حال استمروا، وباسم الثورة، متربّعين على شاشات التلفزة وفي وسائل التواصل الاجتماعي.

الفريق الثاني غير ملحوظ، لكنّه فاعل. وبكلمتين مختصرتين: هو الثورة. مجموعاته متجانسة لأنّها مكوّنة من شباب وشابات من أجيال متقاربة، ينهضون نهضة واحدة حين يستدعي الأمر، ولا يُمكن الجزم بكيفيّة نهوضهم أو توقيته، كما أنه من غير الواضح أسلوب مؤآزرتهم لبعضهم البعض في الساحات!

فهل تعني هذه الازدواجية في الأداء أنّ الثورة منقسمة على نفسها؟ لا، الثورة ليست منقسمة على نفسها ولا هي مشرذمة. وببساطة، لأن الفريق الأول ليس ثورة، هو شيء آخر مختلف تماما، ومبني على طموحات شخصيّة. أما الفريق الثاني فهو ثورة ثورة، فماذا في البراهين؟

إذا نظرنا في أداء الفريق الأول، نرى أنه يُلبّي رغبات السلطة، وبكل أمانة:

*تُريد السلطة، ومنذ اليوم الأوّل لثورة 17 تشرين، أن يأتي إليها، من الثورة، قائد أو مجموعة تُفاوض عنها. وتجهد مجموعات الفريق الأوّل، على الدوام، لخلق هيئة/جبهة الخ.. تُدير الثورة (أو تنسق بين مكوناتها) وتفاوض عنها.

*ترفض السلطة قطع الطرقات وحرق الدواليب كون هذا الأمر فعل فعلته، ويعتبر الفريق الأوّل أن مَن يحرق الدواليب في الطرقات "أزعرًا".

*تواجه السلطة المجموعات الغاضبة بالمسيّل للدموع، والمطّاطي، وأحيانًا بالخردق، وتنعت هذه المجموعات بالخارجة على القانون وتُمعن في اعتقال أفرادها الثوّار وتعذيبهم، وعوض أن يدافع الجميع عن هؤلاء الثوّار، يتنكّر الفريق الأول  لهم وينعتهم بالمشاغبين والمدسوسين.

*تعتقل السلطة ثائرًا لمجرد أنّه يهتف "كلن يعني كلّن"، أو ثائرة لمجرّد أنّها مرت ضمن موكب سيّار من أمام قصر عين التينة، بينما تملأ "أنتليجنسيا" الفريق الأوّل الشاشات بالشتائم، والتهجّم على أهل الحكم، والإعلانات المدفوعة المناهضة للنظام، ومن دون أن تقترب السلطة من أفرادها.

*تتَهم السلطة الثورة بتلقي الدعم المالي من السفارات والعمالة لها، لكنّها لا تسألُ أحدًا ممن يحرّكون الأموال على الأرض "من أين لك هذا؟" (وأنا لا أتّهمهم بقبض أموالٍ مشبوهة) وفي المقابل تُطلق الشائعات حول بعض الثوار، الذي لا يملك معظمهم ثمن سندويش، بأنّهم يقبضون من هذا أو ذاك..

*تُدرك السلطة أنّ إثارة النعرات الطائفيّة بين اللبنانيين هي الطريق الأسهل لتفتيت الثورة، ولا ينقطع الفريق الأول – بغباء – عن زجّ الموضوع الطائفي ضمن أهداف الثورة. في حين أن عددا كبيرا من الثوّار ربما يتخلى عن الثورة إذا ما تم المسّ برموزه الدينيّة.

*كان هاجس حزب الله البقاء مترفّعًا فوق لهيب الثورة، ومنذ البداية، فقدم له الفريق الأوّل أكبر خدمة باعتماد سياسة تحييد سلاحه عن مطالب الثورة، بحجّة أنّ إثارة هذا الموضوع يخلق شرخًا داخل صفوف الثوّار. ونجحت "الأنتليجنسيا" في زرع هذا الخوف الواهي، إلى حدّ ما، لكن اللعبة انكشفت في النهاية.. فكيف لك أن تخفي مشكلة بهذا الحجم تحت كومة من القش؟

إذًا، التناغم موجود بين أجهزة السلطة والفريق الأوّل، فريق قائم بذاته، منشغل بنفسه وبصورته ومن دون أيّ تواصل مع ثوّار الأرض، أيّ مع الذين أسميتهم بالفريق الثاني.

وفي المقابل، لا همَ لدى الفريق الثاني سوى نجاح الثورة وتطورها وتحقيق الإنجازات. فهو لا يُقاد بإغراءات سياسية وطموحات شخصية، ولا يعنيه انتخاب ممثّلين عن الثورة لأنّه لا يُريد التفاوض مع أهل الحكم، بل يتمسّك بطردهم جميعًا ليس إلّا.

ثوار لبنان يعرفون جيدًا أنّ الانتخابات النيابيّة المُبكرة لن تُغيّر التركيبة القائمة في ظلّ السلاح غير الشرعي الحامي للمنظومة، وفي ظلّ استحالة وضع قانون انتخاب عادل يسهر على تطبيقه قضاة نزيهون. ويدرك الفريق الثاني تماما أنّ كل ما حقّقته الثورة كان بفعل تحرّكاته الميدانيّة الضاغطة، وليس بفعل عراضات "الأنتلجنسيا" على الشاشات، وهو لا يطلب المشورة من أحد، لا من أجهزة السلطة، ولا من مدّعي قيادة الثورة، حول كيفيّة تحرّكه. وهو أيضا لا يخشى محاولات تشويه سمعته لأنّ أداءه يتّصف بالنقاء والوطنيّة تحت الراية اللبناني، كما لا تخشى مجموعاته الثوريّة المحاكمات والسجون، طالما السجون هي أحد المعابر إلى الحريّة. هؤلاء الشابات والشباب هم مَن يُبقي وهج الثورة قائمًا، وهم مَن يُمعنُ في إرباك أهل الحكم، إذ يعودون إلى الساحات في كلّ مرّة، بعد أن يكون أهل الحكم قد لبسوا الوهم بأن الثورة قد انتهت.

مجموعات الفريق الثاني لا تُميّز بين لبناني مؤمن وملتزم، ولبناني آخر يسعى إلى تحقيق العلمنة الإيجابية، إذ بالنسبة لها لا شيء يؤكّد أنّ هذا أفضل من ذاك!

لن تنجح السلطة في إخماد الثورة، لأنّها لا تعرف مَن هم الثائرين الحقيقيين عليها، وإذا كانت تراهن على ضبط بوصلة الثوار بمجرّد السيطرة على بعض الأبواق الحالمة بالمناصب على حساب الثورة، فهذا لن يوصلها إلى مكان.

وينطبق الأمر نفسه على الموفدين الدوليين الذين يعتقدون أنّهم يجتمعون مع ممثلي الثورة، في حين أنّهم يجتمعون بأصدقاء الأجهزة الذين فُتحت أمامهم شاشات التلفزة للظهور، عساهم يخدمون هذه الأجهزة، إن هم نجحوا في خلق حيثيّة لهم داخل الثورة. كما يجتمع الموفدون بأفراد من "المجتمع المدني" كانت موائدهم دوما مفتوحة في السنين الماضية أمام الملحقين في السفارات، ولم يعد خافيًا على أحد أن بعض هؤلاء هم من ضمن لائحة "كلّن يعني كلّن".

في المحصّلة، تعيش السلطة حالة إنكار تجاه الثورة والثوّار. لم يحظ الموفدون الدوليّون بعد بشرف الجلوس مع الثوّار والاستماع إليهم. المجموعات المُفترضة "أنتلجنسيا" الثورة، لم تقنع ثوّار الأرض، ولم تُحسن التخاطب معهم! إذًا، وحتّى إشعارٍ آخر، ستبقى الثورة هنا وستبقى الحلول بعيدة... إلّا إذا!