لولا الاعلام ربما لم يكن لأسامة بن لادن ولا لتنظيمه القاعدة القدرة على بناء امبراطوريته الإرهابية، هي الاكبر في التاريخ المعاصر. ولا أبالغ عندما اقول ان الزواج بين الاعلام والقاعدة هو سر نجاح هذا الجماعة الإرهابيه التي نجحت في ما فشلت فيه كل الحركات المسلحة الاخرى المماثلة في الخمسين سنة الماضية.
الى بداية التسعينات كان الاعلام العربي في معظمه وزارات اعلام حكومية، تلتزم بقواعد تمنعها ان تذيع اي تبث او تنشر ما يخالف توجهات المؤسسات الرسمية. وكان العقد الجديد نهاية ايام هيمنة الاعلام الرسمي في المنطقة العربية، حيث انتشرت وسائل الإرسال الفاكس، وبدأت شبكات الانترنت تفتح نوافذ صغيرة يتواصل من خلالها بضعة الآلاف من الناس، وفوق هذا كله هيمن الاعلام العربي التلفزيوني الفضائي.
عربسات، منظمة تقوم بإدارة وتأجير الترددات التلفزيونية لخدمة المحطات في المنطقة مملوكة لحكومات عربية، نجحت في اطلاق اول أقمارها الصناعية للنقل التلفزيوني عام 1984 لكن زبائنها كانوا كلهم قنوات حكومية وشركات كبيرة. وفي مطلع التسعينات ، وبعد حرب الكويت التي سطع فيها نجم السي ان ان، صارت عربسات اكبر مؤسسة بث تلفزيونية حيث انتشر سريعا الاستخدام المنزلي للأطباق اللاقطة. فظهرت اول محطة عربية تعتمد نظام البث الفضائي لا الارضي، ام بي سي من لندن تلتها الفضائية المصرية ثم لحقت بها عشرات المحطات العربية، لتؤذن بنهاية عهد الرقابة والإعلام التلفزيوني الرسمي.
وخرجت ألبي بي سي العربي كاول محطة إخبارية لكنها سرعان ما اغلقت بسبب عجزها عن تحمل النقد الرسمي، وظهرت الجزيرة بديلا لها لتؤذن بعصر إعلامي سياسي مختلف.
وعندما غادر اسامة بن لادن منفاه في السودان عام 1996 واختار الإقامة في افغانستان كانت السماء العربية تكتظ بالمحطات وصحون الاستقبال، ومن هناك اختار استراتيجية إدارة الحرب دعائيا. كان حينها يسجل خطبه على أشرطة (في اتش إس) المنزلية او رسائل صوتيه، ويرسلها عبر مندوبية للبث الفضائي وهكذا خلال اربع سنوات اصبح اسما لامعا. ولم تكن هناك من دعاية مضادة له، مما مكنه من جمع الاتباع والتبرعات المالية الضخمة، كل ذلك بحجة إعلاء كلمة الله ومحاربة الغرب الكافر، كما كان يردد في خطبه.
لقد لعب التلفزيون الدور الاساسي في خلق أسطورة من بن لادن تحول معها الى شخصية شعبية في العالم الاسلامي بحجة انه كان يدافع عن المظلومين ويواجه الطغاة.
لقد كان ماهرا في اللعبة الاعلامية وبارعا في حشد الجماهير. فهو بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ظهر سريعا بعد ساعات قليلة من بداية الحرب الاميركية على افغانستان في اكتوبر، في شريط تلفزيوني اعلن فيه ان العالم الان مقسوم الى فسطاطين، فسطاط الخير وفسطاط الشر الذي تمثله الولايات المتحدة. في الحقيقة كان ذلك الفيديو قد سجل قبل الحرب على افغانستان لكنه اعد لإيصاله وبثه في تلك الساعات الخطيرة ضمن حرب دعائية بين الطرفين.
واستمر بن لادن ورفيقه الظواهري يتحدثان للجمهور عبر التلفزيون، حتى دخلت القاعدة عصر الفيديو الرقمي للإنترنت الذي ساهم في تحرير الجماعة المتطرفة من المحطات الفضائية التي صارت تتراجع عن بث اشرطتها ولا تبثها الا بعد اسابيع من استلامها، ومراجعة اجهزة الاستخبارات لها في البداية، بحجة خشيتها ان في الأشرطة توجيهات او كلمات سر لعلميات إرهابية.
واعتمدت القاعدة البث على الانترنت لاشرطتها الصوتية والتلفزيونية مستخدمة مواقع هائلة لأناس يتلقفونها ويعيدون إرسالها من خلال شبكة معقدة مكنت التنظيم السري من تجاوز رقابة التلفزيونات.
وتتالت الأشرطة الصوتية والمصورة ترافق الهجمات في العراق والسعودية وأوربا، في بعضها تعلن بفخر عن مسؤوليتها، وأخرى توجه اتباعها مثل احد الأشرطة التي طلبت فيه من وكيلها في العراق ابومصعب الزرقاوي بان يكف عن استهداف المحايدين ويركز هجومه على المحتلين. كانت القاعدة مملكة خفية تقوم على الدعاية بشكل اساسي لتضمن اهم ثلاثة عناصر، التأييد والتجنيد والتمويل.
ومن يدقق في هوية القاعدة اليوم يجد انه عدا عن قيادييها، مثل الظواهري، فان جنود التنظيم معظمهم صغار السن ولدوا في التسعينات، وكثير منهم دخلوا صفوف الحركة فقط بعد عام ٢٠٠١ مما يؤكد انه رغم ما تعرضت له القاعدة من مطاردة في أنحاء العالم والتضييق على الجمعيات والمساجد التابعة لها الا انها استطاعت النجاة والعمل تحت الارض، وكل ذلك بفضل الدعاية.
ولايزال الظواهري يطلق كل شهرين تقريبا شريطا يتحدث فيه عن آرائه في احداث العالم، بما في ذلك قضايا البيئة والاقتصاد العالمي، طبعا الى جانب الاحداث السياسية مثل الثورة المصرية. والظواهري يحاول من خلال تكثيف حضوره الاعلامي ان يفرض وجوده زعيما للقاعدة، إثر قتل زعيمها ومؤسسها بن لادن، وبعده صارت المنظمة تواجه خطر الانقسام والتفكك.
ولا يستطيع اي متابع لتاريخ صعود القاعدة وحتى الان الا ان يعترف بانها كانت في البداية ظاهرة إعلامية بخطاب سياسي ديني استغل معاناة الناس من انظمتهم وأحباطات الشعوب وقدم أحلاما وردية معلنا الحرب على الأنظمة والغرب، هذه الرسالة التي ظلت تردد في الاعلام العربي نادرا ما وضعت تحت التشريح من أبواق القاعدة ومؤيديها، في وقت تساهلت الأنظمة السياسية في مواجهة الجانب الفكري المتطرف وتفرغت للحرب الأمنية على خلايا الارهاب.
وعاشت المجتمعات العربية، وحتى في الغرب، تركز على جمع المعلومات والتفتيش المستمر والملاحقة، وتركت المنابر ووسائل الاعلام والإنترنت مفتوحة لجمهور القاعدة يؤلبون المسلمين، وخاصة الصغار، على مجتمعاتهم. ولاتزال الحرب مستمرة حتى يومنا هذا بفضل استمرار الدعاية للجهاد الارهابي.
*عبدالرحمن الراشد: هو إعلامي سعودي يشغل حاليا منصب المدير العام لقناة العربية التلفزيونية، ويكتب في جريدة الشرق الأوسط، الذي سبق وأن ترأس تحريرها.
* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع CNN بالعربية.