حوار: هدا السرحان
عمان، الأردن (CNN) -- استيقظت الراوية من نومها في صباح يوم جديد لتجد نفسها في منزل ميلادة سالم أبو نجمة في مدينة القدس. أخذتها الدهشة إلى أجواء وحارات وبوابات المدينة التي وهبها الله المحبة والتاريخ الروحي المقدس.
منذ ذلك الصباح بدأت الراوية عملية النبش في التاريخ هي أشبه بتعرية لتفاصيل أيام مضت طالت روح المدينة وتاريخها وحضارتها وحياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية بهدف التعبير عن أعماق الروح المحطمة الغارقة في الأوجاع بعالم المدينة الذي ينهار من حولنا.
كعادتها دائماً، استقطبت الروائية الأردنية ليلى الأطرش أنظار القراء والنقاد والمهتمين بجماليات ومضمون الرواية، وذلك بمناسبة ولادة روايتها الجديدة "ترانيم الغواية،" التي فتحت المؤلفة من خلالها خزائن القدس لتتحدث عن الحب من خلال المدينة، حيث تروي حكايتها من داخل أسوارها التي احتضنت الزمن الجميل، والتي التزمت بالعيش المشترك في معالجة امتدت على صفحات الرواية لتسقطها في النهاية على الوجع المعاصر، حيث أعادت إحياء مشكلة هجرة المسيحيين من المدينة بأسلوب وتفاصيل زاوجت الكاتبة من خلالها بين الواقع والمتخيل في تشكيل بناء عملها الإبداعي اللافت، الذي اتسم بالجرأة، والشجاعة، والواقعية.
وتناولت الراوية الأطرش في الرواية أيضاً، على مدى أوراق الخوري متري الحداد، مسألة الصراع العربي اليوناني على الموقع الروحي المتجسد في مرجعية الكنيسة الارثوذكسية، وهو الصراع المتواصل حتى هذا الوقت.
وفي هذا الحوار مع الأديبة ليلى الاطرش في عمان، نحاول استكشاف تفاصيل ومفاصل الحدث والرسالة.
في رواية "ترانيم الغواية" يتساءل الخوري حداد في رسالته الى ولده: هل أكتب سيرتي أم قصة مدينة؟ ويعني القدس! أين تقف ليلى الاطرش من هذا التساؤل؟
تساؤل أحد أبطال الرواية معتذرا لولده عن الفجوة العاطفية بينهما مشروع. فالخاص والعام اختلطا في حياته كما الشخصيات الأخرى، حتى يصعب فصلهما. فالخوري شاب نذرته أمه للكهنوت حين ضنّ رحمها بالحمل..حاول التمرد على قدر حددته له بنذرها بأن يترك الكهنوت كما فعل صديقه رفيق رزق سلوم الحمصي أحد شهداء 16 مايو/أيار، لكنه فشل. ثم أقنعه الشيخ عبد الحميد الزهراوي، عضو مجلس المبعوثان، والصحفي وعالم الدين، وأحد شهداء سوريا، بالبقاء في الكهنوت ليخدم القضية الوطنية من موقعه. فتتقاطع حياته في القدس مع حبه المحرم، ووقوفه في وجه اليونان، في زمن التحولات الكبرى في حياة مدينته، زوال الخلافة العثمانية، والحرب الكونية الأولى ثم الانتداب وتداعيات وعد بلفور وأثر هذا على حبه، وعلاقته بابنه الوحيد الذي امتدت المسافة النفسية بينهما إلى حد لم يجد وسيلة للتعامل معه إلا بكتابة الرسائل.
وأنا وقفت أثناء كتابة الرواية على مسافة واحدة من أبطالها ومن سيرة المدينة، فإغواء التاريخ الموثق مما لم يكتب أو يصرح به يحتاج إلى الحياد وإلا سطا التاريخ على فنية الرواية.
إلى أي مدى طغى المتخيل على الواقع في الرواية؟
بمقدار ما يخدم الفن الروائي ولا يجعل النص سرداً تاريخياً.. الرواية خلق لعالم مواز لذاك المعاش بكل ما يحتاجه هذا من صور وشخصيات وأحداث وحكاية عشق وتنويع أساليب السرد، وهي تتعربش على جذع التاريخ الحقيقي.
هل كانت رسالتك تسعى لتوظيف الماضي وإسقاطه على الحاضر من أجل وأد الفتنة الطائفية مثلا؟
لم أكتب رواية بأيديولوجية مسبقة.. ولم يكن في نيتي حين بدأت الكتابة إلا رصد تقاطع الإنسي والمقدس في مدن مغلفة بقدسيتها. والرواية عن قصة حب محرم في زمن التحولات الكبرى لمدينة لها أهمية دينية وسياسية قل نظيرها. وأزمانها مرتبطة بتغير حكامها، والجميع استغل الدين السياسي وحاول إشعال الفتن الطائفية. لهذا لم أحاول إسقاط شيء، هي دورة التاريخ حين يعيد نفسه.
في الرواية، إشارات واضحة نالت من شخصيات مقدسية معروفة.. فهل هذا انحياز إلى الجرأة في التوثيق إلى درجة الاتهام؟
لم أتهم أحداً بما لم يقترف، ولا جرأة في كتابة التاريخ روائيا بعد أن كتب دائماً لصالح الحاكم أو الغالب.. وحين تتصدى لحقبة تاريخية شديدة الخطورة، فمن الواجب سرد الأحداث والشخصيات التاريخية التي أثرت على حياة الناس، وأسهمت في صياغة ماضيهم وحاضرهم، سلباً أو إيجاباً وبحيادية. فليس من حق الروائي إصدار أحكام على أحد.. تلك مسؤولية القارىء.. لقد تجلت السذاجة والنزق في التعامل مع القضايا الوطنية فأدّت إلى ضياع فلسطين... وبعد قرن من تلك الأحداث يحق لروائي يستلهم التاريخ أن يمر على أسماء حقيقية لإضفاء الواقعية على الشخصيات والأحداث المتخيلة. صراع عائلات القدس التقليدية على المناصب، وانقسامها بين قيس ويمن، من باع الأرض من العرب أو بعض الفلسطينيين. شخصيات كبيرة تحكمت في قراراتها علاقاتها مع المحتل التركي أو البريطاني، والعشيقات اليهوديات. هذا مؤكد في الوثائق ولا أستطيع المجازفة بتخيله. ومن حق أي روائي أن يوظف هذا دون خوف... الرواية معرفة وكشف لتاريخ مزور.
الرواية كشفت جذور الخلاف العربي –اليوناني حول مرجعية الكنيسة الارثوذكسية، وهو صراع ما زال قائماً.. هل يخدم هذا القضية في الحاضر؟
لم أكتب أياً من أحداث الرواية بنية مسبقة، قرأت أكثر من 65 مرجعاً عن القدس العثمانية الانتدابية، منها عدد كبير من المذكرات الشخصية، والحياة الاجتماعية والوثائق العثمانية، وحياة البيوت وصورها، والأمثال الفلسطينية. فتكشف لي الوجه المسيحي للمدينة.. وجه لم يقترب منه أحد روائيا ـ بينما العلاقة الإسلامية المسيحية عكست روحاً جميلة للتعايش والتحالف والتقاطع، خاصة بين النساء من الأديان السماوية الثلاثة. وبما أن الأرثوذكس هم أصل المسيحية، ومن قبائل عربية، ويعانون من احتلالين، اليوناني لكنيستهم ومنع تعريبها والتصرف بأملاكها، والاحتلال التركي فالبريطاني لوطنهم، يصبحون مادة جاذبة روائياً.
في الرواية جرأة متناهية في دخول العالم المغلق لرجال الدين المسيحي في القدس.. ماذا تقولين؟
ربما لأنها الرواية الأولى التي كشفت خفايا الوجه المسيحي لمدينة القدس، وصراع الكاهن مع نفسه ورغباته، ومع اليونان وبعض فضائحهم ومؤامراتهم، والتنازع والحيرة بين إغواء الحب والغريزة، في عالم مغلق على أهله. لقد درست هذا العالم وعدت إلى كثير من الوثائق لأفهمه وأكشف بعض خفاياه.
في أوراق الخوري حداد أسئلة كبيرة تحملك الى حدود الشك.. ما رأيك؟
الأسئلة هي العقل، والقلق الوجودي مشروع، والخوري في الرواية شخصيته مستنيرة تأثر بوالده التاجر الفيلسوف البوهيمي صديق الشيوخ الصوفيين المراكشية، كما يسميهم أهل القدس، يؤمن بالغيبيات، لهذا لا تعارض ولا تقاطع بين أسئلته الوجودية كشاب مثقف حائر مع نفسه... الأسئلة هي المعرفة، وكثيرا ما حملت أصحابها إلى تخوم الشك ثم عادت بهم إلى الإيمان. وتجربة الدكتور مصطفى محمود حاضرة في الأذهان. إذا توقف العقل عن التساؤل فقد حضوره الإنساني.
في الرواية صراع بين الروح والعاطفة، وكتابة سيرة القدس مدينة الأديان جسدت هذا الصراع.. هل هو اختيار مقصود؟
الجواب في استهلال قدمت به الرواية: "قدره الانقسام ذاك المولود في مدينة منذورة لله، ظاهرها قدسي وباطنها إنسي" هي رواية البشر في مدينة مقدسة. تقول البطلة والمخرجة السينمائية وهي تنتظر تصريح دخول إلى القدس لزيارة قريبتها العجوز، بينما هدفها الحقيقي تصوير فيلم عن المدينة.. إنها "ستحاول إيقاظ البشر من عباءة التاريخ، أناس عاديين أهملهم المؤرخون ترفعاً أو بسوء نية"، ذهبت تبحث عن قصة حب محرم طالته الألسن والشائعات، وعن قصص النساء الضائعة في التاريخ الموثق. هي رواية الصراع بين القدسي والإنسي، وحياة الليل وراء الأبواب المغلقة في مدينة تنام وتصحو على قدسيتها.