رأي.. هل مازال الهلال يعانق الصليب في مصر؟

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
تقرير أحمد عبد ربه
رأي.. هل مازال الهلال يعانق الصليب في مصر؟
رجل مصري قبطي يحمل الكتاب المقدس والقرآن الكريم خلال مسيرة في القاهرةCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

منذ الصغر نشأت وفي فصلي المدرسي ثلاثة طلاب مسيحيين، يجلسون بجانب بعضهم البعض ويغادرون الفصل في حصة الدين. لم يكن لديهم حصة دين في الواقع، فقط لدينا نحن، أما هم فيغادرون إلى الفناء وربما الى حجرة مجاورة حتى تنتهي الحصة فيعودون مجددا. لم نكن ندرك وقتها معنى العنصرية أو الاضطهاد، لكننا كنا ندرك معنى الاختلاف. فهمت عقولنا الصغيرة أننا لسنا نفس الشيء، فهم غير مسلمين ويذهبون الى الكنيسة بينما نذهب نحن إلى المسجد، يضعون صلبانا على معاصمهم بينما لا نفعل نحن.

في الثانوية العامة ترعرع شعور "الاختلاف" بين الزملاء وتحول إلى شعور وسلوك "اضطهادي" بأشكال متنوعة، أتذكر ذلك العراك الذي قام ذات مرة بين طالب مسلم وآخر مسيحي، فتطوع آخر لتوجيه ضربات خلسة إلى المسيحي فقط لأنه مسيحي! أتذكر أن إحدى النكات السائدة فى عصرنا كطلبة مراهقين، يدخل أحدهم على مجموعة ولا يلقي السلام فيبادله الآخرون "أنت داخل على كنيسة؟"!

وفي الجامعة، كانت العنصرية تبلغ مداها، أتذكر وأنا فى عامي الجامعي الثاني وقد وزعت علينا استمارات لاستبيان آرائنا السياسية كطلبة وكان أحد الأسئلة يقول "هل تقبل أن يتولى من هو على غير دينك منصبا هاما فى الدولة؟" فكانت الإجابة لـ ٧٠٪ من الطلاب مسلمون ومسيحيون هي "لا"! في الجامعة كان (ومازال) هناك شلل للطلاب المسيحيين حتى أن البعض أصبح يسمي بعض الأماكن فى الحرم بـ "حارة الكفاتسة" في إشارة الى المسيحيين وتجمعاتهم.

 حينما تخرجت من الجامعة وعينت بها فى ٢٠٠١ أتذكر جيدا الموقفين التاليين، أما الأول فكان حين جاءتني إحدى الطالبات المسلمات تشتكي من أن بعض زميلاتها تعايرها بأنها تصاحب مسيحية! أما الآخر، فكان حين جاء صديقي المسيحي يزورني فى المكتب ليبارك لي تعييني، وقد تصادف وجود مهندس الحاسب لإصلاح عطل طرأ على جهازي، وبسبب تقارب السن فقد طلب مني أنا وصديقي "المسيحي" أن نستمع الى نكتة، فإذا بها نكتة سخيفة تسخر من "القساوسة"، قطعا لم يعرف هذا المهندس أن زميلي مسيحي، فهو يفترض أن الجميع مسلمون من حيث المبدأ.

***

لم أكن أدرك طوال حياتي في مصر عمق الأزمة فأنا "مسلم" و"نحن" أغلبية لم أشعر بشعور الأقلية إلا عند السفر خارج البلاد من أجل الدراسة -- أحمد عبد ربه، ذهبت بعيدا الى حيث أنا أقلية، وهنا كانت دروس الحياة الهامة التي أعتبر نفسي محظوظا لتعلمها في هذه السن المبكرة. فهمت معنى أن تكون أقلية، لم أكن مواطنا، ولكني حصلت على كل حقوقي كاملة، اعتقد كما أشاء وأمارس عقيدتي متى أشاء، لا يسألني أحد ولا يضطهدني أحد، ما بيني وبين الآخر هو القانون ولا شيء غيره.

تعجبت أشد العجب وأنا أرى بعض المسلمين في البلد التي أعيش بها ومعظمهم من حاملي شهادة الدكتوراه وهم فرحون بافتتاح مسجد جديد في المدينة الصغيرة التى نعيش بها والتي ربما لا يقطنها سوى عشرات المسلمين، بينما يتجادلون حول حق المسيحيين المواطنين في بلادنا في بناء كنيسة لأن بها صلبان ضد معتقداتنا!! الغريب أن معظم هذا الجدل كان يدور بين المسلمين العرب، ولم أسمعه أبدا بين المسلمين الأندونسيين أو الماليزيين ولا أعرف حتى اللحظة السبب.

خذ عندك أيضا عشرات الأسئلة التي تطلب من الشيخ أن يفتي لها إن كان السلام على مسيحي ينقض الوضوء!، أو تلك الفتوى السنوية والتي أصبحت طقسا مقدسا يصدر عن البعض بعدم جواز تهنئة المسيحي بأعياده لأن في ذلك موافقة ضمنية وتشجيع له على الاعتقاد الخاطئ المخالف لديننا، حسنا المرة القادمة سأقول له "عيد غير سعيد فديانتك خاطئة...أراك فى جهنم"!

***

لا أعلم قطعا إن كنت في حل أن أذكر عشرات الأمثلة عن فتاوى عدم جواز ترشح غير المسلم لمنصب الرئاسة أو غيره من المناصب الهامة، ثم بعد ذلك تجد من يتشدق بالدين قائلا لمن هم على غير دينه " شريعتنا تعطيكم الأمان وتحثنا على حسن معاملتكم"! وكأن المواطن غير المسلم من العبيد الذين ينتظرون الهبات! هل أنا في حل أيضا من الحديث عن ردود الفعل تجاه بناء الكنائس وما يصاحبها من فتن طائفية تودي بحياة العشرات إن لم يكن المئات سنويا؟ هل نضيف الى كل ذلك عشرات إن لم يكن مئات حالات العقاب الجماعي (بما فيه الطرد والتهجير القسري) لبعض الأسر المسيحية هنا وهناك؟

 

لاحظ أنني في كل ذلك لم أشر الى الحوادث الإرهابية التى ارتكبت بحق الأقباط المصريين من قتل وترويع وخطف والاستيلاء على محلات الذهب كغنائم.. الخ فقط أشرت الى عشرات السلوكيات والأفكار الطائفية العنصرية التي تفرق بين أبناء الوطن الواحد متخذة من الدين ستارا لممارسة علاقات القوة فى ظل مفاهيم رجعية عن "الأغلبية" ضد "الأقلية"!

***

قطعا أعلم أن هناك الكثير والكثير من الوسطيين هنا وهناك، لكن تزايد وترسخ الأمثلة التى قصصتها سابقا توضح بعمق حقيقة الأزمة التى نعيشها بخصوص قضية المواطنة -- أحمد عبد ربه، وهي في تقديري أزمة ثلاثية الأضلاع، أما ضلعها الأول، فيتمثل في هذا الجهل الرهيب بحقائق تطور الدولة القومية الحديثة التي تجاوزت عصر الإمبراطوريات وفكرة الخلافة، دولة قوامها شعب وأرض وحدود وسيادة. الرابط الأساسي بين مواطنيها هو رابط الوطن ومن ثم المواطنة المحددة بواجبات وحقوق ينص عليها الدستور، يرأسها موظف أعلى لا خليفة ولا إمبراطور، حق المواطن الملتزم بالقانون أيا كان دينه لا مساومة عليه، حقوق هذا المواطن مكفولة بالدستور لا بشريعة هذا الدين أو ذاك، لا منة ولا هبة من الأغلبية إلى الأقلية أو العكس.

 بينما الضلع الثاني متمثل فى تلك الثقافة التي طرأت علينا من بيئات وثقافات مغايرة لنا جاءت متمسحة فى الدين، بينما هي بالأساس اجتهادات بشرية تطورت عبر عقود من تطورات تاريخية مغايرة لتلك التي مررنا بها فى مصر، فرضت علينا أشكال معينة من الملبس والمظهر وطريقة الكلام وليست بالضرورة مناسبة لنا.

 ثم يأتي الضلع الثالث والأخير والمتمثل فى هذا الخلط العجيب بين الدين كرسالة سماوية راقية خاصة بالعلاقة بين العبد وربه، تضع أساس وقوام للعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بينما تترك البشر للاجتهاد والتطور بما يناسبهم ويناسب تطور عصرهم  وعقلهم  وحضارتهم طالما حافظوا على هذا القوام، وبين الدين كأداة اخضاع وسيطرة فى ظل علاقات القوة بين مؤمنين وغير مؤمنين، أو كأداة حشد خلف برامج سياسية أو حزبية، أو كأداة تأثير وصناعة للرأي العام من خلال خلق أيقونات مقدسة لإيهام البشر وتكتيلهم. تعرف الدول الحديثة وتقبل وترحب بدور الدين الوعظي والروحي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لكنها ترفض تحول الدين إلى أدوات إخضاع أو حشد أو تأثير، ومازلنا في مصر لا ندرك هذه الحقيقة البسيطة.

***

في مصر يكثر الكلام عن عناق الهلال للصليب، عن تلك العلاقات الودية التى تغلف العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، هذا صحيح ولكن تطورات كثيرة حدثت خلال العقود الماضية تكاد أن تفسد العلاقة، خاصة مع الإصرار على التعامل مع غير المسلميين كرعاية أو "أهل ذمة" -- أحمد عبد ربه! عفوا هذه مصطلحات لا تناسب التطورات البشرية الحديثة، فلماذا نحمل أنفسنا بتطورات تاريخية مغايرة لطبيعتنا الحديثة؟

لن تنهض مصر أو تتطور قبل أن يعود الدين الى لعب دوره الروحي بعيدا عن استغلاله بواسطة رجال يحتكرون الحديث بأسمه -- أحمد عبد ربه، أو رجال سياسة يستخدمونه كأداة للحشد أو التعبئة أو التأثير، أو حتى بواسطة مؤسسات دينية أضحت تتخطى الدور الروحي لتصبح دولة داخل الدولة تأمر وتنهي وتحتجز وتفرج! أثق أن مصر ستتجاوز هذه الرجعية، لكن متى وبأي تكلفة.. يظل هذا سؤال مفتوح.