من تجارب النازية وسنوات الدم بالجزائر .. سلطان بن أحمد القاسمي يكتب لـCNN عما يجب فعله كي لا تصبح ثقافة الإرهاب هوية

الشرق الأوسط
نشر
8 دقائق قراءة
تقرير سلطان بن أحمد القاسمي
من تجارب النازية وسنوات الدم بالجزائر .. سلطان بن أحمد القاسمي يكتب لـCNN عما يجب فعله كي لا تصبح ثقافة الإرهاب هوية
فتاة تونسية تعطي زهرة لضابط شرطة أثناء وقفة احتجاجية في موقع الهجوم على حافلة في وسط مدينة تونسCredit: MOHAMED KHALIL/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم الشيخ سلطان بن أحمد القاسمي، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

قبل القضاء على ظاهرة الإرهاب في الجزائر، كان عدد الإرهابيين يقدر بعشرات الآلاف، يضاف إلى هذا العدد أضعافه ممن كانوا يؤيدون الإرهاب ولا يمارسونه. اليوم لا يتجاوز عددهم بضع مئات. وهذا يطرح علينا سؤالاً في غاية الأهمية: هل قتلت قوات الأمن الجزائرية جميع الإرهابيين؟ والجواب هو بالطبع لا.

السؤال نفسه ينسحب على من كانوا يحملون أيديولوجيات معينة، مثل النازية أو الفاشية في إيطاليا وألمانيا. فأين ذهب كل هؤلاء؟ هل اختفى الإرهابيون من الجزائر، أم أن ثقافة الإرهاب هي التي اختفت؟ هل اختفى النازيون والفاشيون أم أن ثقافة النازية والفاشية هي التي اختفت وحلت محلها ثقافة أخرى منحت كل منهما صفة مختلفة بالمطلق، تتناقض في جوهرها مع الصفة السابقة.

إن تحليل هذه الظاهرة يكمن في فهم العلاقة بين الهوية والثقافة، فالناس بمعزل عن أفكارهم مجرد حشود محايدة، لا يمكن تصنيفها أو إطلاق أي صفة عليها. وعند المزج بين الثقافة والجماهير، أي عندما تحمل الجماهير ثقافة معينة، عندها فقط نستطيع توصيفها وتحديد الموقف منها.

إذاً فإن الانتقال من شكل اجتماعي إلى آخر هو في حقيقته انتقال من ثقافة إلى أخرى، أي أن الانتقال من النازية إلى المدنية والمواطنة في ألمانيا كان تجسيداً لعملية مكثفة قادتها الجهات المسؤولة، ووظفت فيها كافة العوامل الممكنة من إعلام وثقافة، ومن استحضار للذاكرة المشتركة والتاريخ المشترك للجماهير. أي أنها أعادت الاعتبار للمكونات الطبيعية للهوية الوطنية في إطار إنساني بحيث لا تتعارض مع غيرها من الهويات.

يعتقد الكثيرون أن الثقافة هي صفة نخبوية، تتعلق فقط بالفنون والآداب والمعارف غير التقليدية. لكن التفسير الصحيح للثقافة كما يراها الشاعر والفيلسوف الإنجليزي " توماس ستيرنز إليوت"، هو "أنها أسلوب الحياة ممثلة بالقيم والعادات والتقاليد والدين والفنون التي تميز مجموعة من الناس أو شعب من الشعوب يعيشون مع بعضهم في مكان ما وزمن ما. والثقافة أكبر من مجرد أن تكون تلك القيم والعادات والفنون مجتمعة، لأنها أسلوب حياة ناتج من تفاعلها جميعا".

وبما أن للثقافة هذا الدور الكبير في تحديد الهوية، في تعزيزها أو تفكيكها، فأي أثر قد يكون للثقافة على الهوية والسلوك الذي يعبّر عن الانتماء للوطن والمجتمع؟ إن أهمية هذا الطرح، تنبع من فهمنا العميق لطبيعة الأزمات التي تواجهها غالبية الدول التي تعاني من الإرهاب والتفكك الاجتماعي. بالرغم من اختلاف الظروف الخاصة بكل بلد، إلا أن الجامع المشترك بينها، هو ضعف ثقافة الانتماء وتآكل الهوية الاجتماعية، مما أدى إلى استقطابات عدة في داخل المجتمع الواحد، صنعها سيل جارف من الثقافات الدخيلة التي تتناقض في أهدافها وتوجهاتها مع التراث بوصفه المكون التاريخي للهوية، وتتناقض مع بعضها البعض أيضاً، مما وضع أتباع هذه الثقافات في حالة صراع مركب لن ينتهي إلا بانتهاء مسبباته.

إن تناول مسألة الهوية والانتماء عبر رسائل الاتصال الحكومي من الحساسية لدرجة أنه يمكن توصيفها بالسير في حقل من الألغام، فمن ناحية يجب تعميق جذور المعارف والمفاهيم التراثية المشتركة التي تعزز هذه الهوية، ومن ناحية ثانية يجب ألا يؤدي هذا السياق إلى التعصب ورفض الآخر، لأننا في الحالة هذه نكون قد حققنا وحدة الهوية الوطنية، ولكننا نقلنا الصراع إلى شكل آخر وهو الصراع بين الهويات القومية والوطنية المختلفة.

لذا على دوائر الاتصال الحكومي أن تتبنى حملات مكثفة لإعادة الاعتبار لثقافة الانتماء للهوية الوطنية، وفي الوقت نفسه أن تتوخى الحذر من الوقوع في فخ عزل هذه الهوية عن بعدها الإنساني. وهذا ممكن فقط إذا اشتملت حملات الاتصال الحكومي على كافة العناصر الثقافية المكونة للهوية، وفي مقدمتها الجهوزية للتبادل المعرفي المتكافىء بين الحضارات والثقافات المختلفة على قاعدة الاعتراف بالتنوع والاختلاف كعامل يثري الهوية ويعزز قيمها الإنسانية.

تزداد حساسية هذه المهمة عند التعاطي مع الجيل الشاب، فهذه الفئة لما لها من طاقة هائلة، تختزن في دواخلها رغبة جامحة في التغيير. وتلجأ في سبيل تحقيق رغبتها إلى تبني أفكار متعصبة لتبرير استعمالها للعنف ضد محيطها الاجتماعي. ولو بحثنا في معنى كلمة تغيير على ضوء ما يجري في الساحة العالمية، سنجده معنى مبهماً لا قواعد ولا ضوابط له، وإلا بماذا نفسر استهداف الإرهاب لساحات مختلفة ومتباينة من جنوب أفريقيا حتى أوروبا ومروراً بآسيا؟

إن مفهوم التغيير الذي تبثه الدعاية المتطرفة ليس له أي تفسير منطقي. إذ يفسر ذاته بالعنف فقط، وبرفض الواقع لمجرد الرفض، فلا تشابه بين واقع نيجيريا وواقع فرنسا على سبيل المثال، لكن التشابه والتطابق يكمن فقط في ثقافة الإرهاب والعنف التي استهدفت هاتين الساحتين.

من هنا نستنتج أن مواجهة التطرف لا تتم إلا بمواجهة ثقافته. لقد أنتجت ثقافة الإرهاب والتطرف هوية جديدة تتسم بالانعزال عن محيطها الاجتماعي ومعاداته. نمت وتغذت على ضعف الهوية الوطنية الحقيقية وعلى غياب العناصر المعرفية المكونة لهذه الهوية، فما هي خطة الاتصال الحكومي في مواجهة هوية الإرهاب وتفكيكها وإعادة الاعتبار للإنسان بهويته الطبيعية التي تحدد دوره ومكانته ككائن اجتماعي؟

يمكن اختصار أهم مكونات هذه الخطة عبر عدة عناوين، أبرزها توصيف العلاقة بين الإنسان ومحيطه كعلاقة انتماء يحددها التاريخ المشترك والمصير المشترك. بمقدار قوة ومتانة هذه العلاقة يستطيع المجتمع أن يمضي نحو التطور، وفي هذا رد على ثقافة التغيير المتطرف التي تظهر أزمتها في تناقضها مع جميع عوامل التغيير الإيجابي وفي مقدمتها العمل المشترك.

على وحدات الاتصال الحكومي هنا أن تلجأ للعلوم الاجتماعية التي أثبتت أن التغيير هو مسيرة للهوية الوطنية في سياق تطورها الطبيعي، وأنه يستحيل أن يتم عبر الانتقال من هوية لأخرى، فلكل تجربة خصوصيتها وعوامل قوتها الكامنة في جذورها التاريخية.

كما أن على وحدات الاتصال الحكومي أن تكثف من البرامج الثقافية والتوعوية التي تتناول مركبات الهوية من تراث وعادات وتقاليد وقيم وسلوكيات محددة بأخلاقيات تمنح كل مجتمع خصوصيته وتميزه عن الآخر. وعليها أن تنظم حملات وفعاليات مرتبطة بالمناسبات الوطنية والاجتماعية تبث من خلالها القيم الوجدانية التي تعبر عن الارتباط العاطفي بين المواطن والوطن.

إن إدراكنا كخبراء في الاتصال الحكومي لأهمية احتضان الثقافة للهوية وحمايتها من الانحراف، ناتج عن إدراكنا بأن الفرد لا يمكن له العيش بدون انتماء، وإذا ضعف انتماؤه للوطن، وضعفت الروابط بينه وبين محيطه الطبيعي، سيفتش حتماً عن انتماءات أخرى قد تجعله ضحية لكيانات التطرف والإرهاب، وتضعه في مواجهة مجتمعه وأهله. فهل سيتمكن الاتصال الحكومي في البلدان التي تعاني التفكك، من استعادة الهوية إلى محيطها الثقافي الاجتماعي مرةً أخرى؟