ليالي إسبانيا الطويلة تغضب البعض.. هل نمط الحياة "الجنوني" هذا في طريقه للاختفاء؟

سياحة
نشر
8 دقائق قراءة

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- اليوم الإسباني معروف بِطوله، فلا يحين وقت الغداء إلا في الساعة الثانية بعد الظهر. وغالبًا ما تنتهي ساعات العمل بعد السابعة مساءً، بينما يحين وقت العشاء في الساعة الثامنة والنصف تقريبًا. 

ولحسن الحظ لبعض السياح، الذين يحرصون على تجربة طرق العيش المختلفة، تغلق العديد من المطاعم أبوابها بعد منتصف الليل، ولا يعود الموظفين إلى منازلهم إلا في الساعات الأولى من الصباح.

لذا، لمست النائبة الثانية للرئيس الإسباني، ووزيرة العمل والاقتصاد الاجتماعي، يولاندا دياز، وترًا حسّاسًا عندما ندّدت بثقافة السهر حتّى وقتٍ متأخر من الليل في البلاد، واصفةً إياها بـ"الجنونية".

وقالت دياز خلال اجتماع برلماني هذا الشهر: "لا يوجد بلد منطقي يُبقي مطاعمه مفتوحة حتى الساعة الواحدة صباحًا.. من الجنون أن نستمر في التظاهر، وتمديد ساعات العمل حتى الوصول لمرحلة عدم معرفة ما هو الوقت".

وردّت عمدة مدريد، إيزابيل أيوسو، على ذلك عبر منصة "إكس" (تويتر سابقًا) وكتبت: "ولكننا مختلفون".

ومن ثم أكملت: "إنهم يرغبون منّا جميعًا أن نصبح تطهيريين، واشتراكيين، وأن نشعر بالملل، وأن نكون داخل المنزل".

ليالي إسبانيا الطويلة تغضب البعض.. هل نمط الحياة "الجنوني" هذا في طريقه للاختفاء؟
تنتهي العديد من الأمسيات في إسبانيا في الساعات الأولى من الصباح، فتقدم المطاعم الوجبات حتى منتصف الليل. Credit: Zowy Voeten/Getty Images

ورُغم يومهم الطويل، إلا أنّ الإسبان يعلمون لمدة أطول بقليل مقارنةً بالمتوسط ​​الأوروبي، أي لـ 37.8 ساعة في الأسبوع، وفقًا للمفوضية الأوروبية.

ومع ذلك، فهم يحصلون على نوم أقل مقارنةً بمعظم نظرائهم في أوروبا الشمالية، بـ7.13 ساعة في الليلة، بحسب "خرائط الصحة العامة".

وأفادت مارتا جونكيه من معهد Time Use Institute، ومقرّه برشلونة، والذي استشارته الحكومة الإسبانية مؤخرًا لتعديل قوانينها المتعلقة بساعات العمل، أنّ الإسبان لم يسهروا إلى هذا الحد دائمًا.

وشرحت جونكيه: "إسبانيا الآن فريدة من نوعها من ناحية الوقت المتأخر الذي نغادر فيه العمل".

كما أضافت: "لم يكن الأمر كذلك دائمًا. كان أجدادي يعملون مثل أي شخص آخر. ونهضوا عند طلوع الشمس، وتوقفوا عن العمل عند إطفاء الأنوار. والآن، يحل الظلام عند الساعة السادسة أو السابعة وما زلنا نعمل".

وأكّدت جونكيه: "ما ندافع عنه هو الحق في الوقت".

فترات قيلولة بدون نوم

ليالي إسبانيا الطويلة تغضب البعض.. هل نمط الحياة "الجنوني" هذا في طريقه للاختفاء؟
بدأ وقت القيلولة كفترة راحة تقليدية للعمال لتجنب حرارة الشمس الشديدة في منتصف النهار، كما يفعل هؤلاء الرجال في الصورة التي تعود إلى الخمسينيات. Credit: Erich Andres/United Archives/Getty Images

وبحسب جونكيه، يمكن أن يُعزى التحول في الزمن إلى رجل واحد، وهو الدكتاتور العسكري الإسباني، فرانسيسكو فرانكو، الذي حكم من عام 1936 إلى عام 1975. 

وخلال الحرب العالمية الثانية، قام فرانكو بتغيير المنطقة الزمنية لإسبانيا لتتماشى مع حليفتها الألمانية. 

وأسفر عن ذلك تقدم كل شيء للأمام بساعة، ولم يتغير الأمر منذ ذلك الحين.

وماذا عن فترة الظهيرة الطويلة الشهيرة في إسبانيا الخاصة لأخذ قيلولة، والمعروفة باسم siesta؟

وهذه الكلمة مشتقة من كلمة sexta اللاتينية، والتي تعني الساعة السادسة بعد الفجر.

وكانت هذه الفترة بمثابة استراحة تقليدية للعمال في قطاع الزراعة بإسبانيا، وإيطاليا، وعادةً ما تم أخذها في فترة الظهر تقريبًا، تمامًا عندما تبدأ الحرارة الشديدة لشمس منطقة البحر الأبيض المتوسط بالوصول للذورة.

ولكن في إسبانيا، أصبحت تلك الفترة أكثر انتشارًا في عهد فرانكو، حيث أجبر الاقتصاد المتدهور الأشخاص على العمل بوظائف متعددة، كما أوضحت جونكيه.

وقالت: "كان الأشخاص يستيقظون عند الفجر للعمل لمدة 6 إلى 8 ساعات، ويأخذون استراحة لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات لأخذ قسط من الراحة، وتناول الطعام، والتنقل إلى وظيفة أخرى، ومن ثم العمل لعدة ساعات أخرى حتّى المساء".

وفي اللغة الإسبانية، تعني كلمة siesta القيلولة حرفيًا. 

ومع ذلك، ينام أقل من 18% من الإسبان بانتظام خلال تلك الفترة اليوم، وفقًا لاستطلاع من عام 2016. 

وأبلغ أكثر من 50% من المشاركين أنّهم لا يأخذون قيلولة أبدًا.

ومع ذلك، كان نظام القيلولة، مع التحول في المنطقة الزمنية الذي طبّقه فرانكو، سببًا في مدّ الساعة البيولوجية للاقتصاد الإسباني إلى الليل.

وتُغلق العديد من المتاجر في إسبانيا أبوابها لقضاء استراحة بعد الظهر لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، ما يطيل يوم الموظفين، ويخلق ما تصفه جونكيه بـ "فقر الوقت".

مراقبة الوقت

ويكون الأثر أكبر على النساء الإسبانيات اللاتي يتحملن مسؤولية غالبية الواجبات المنزلية، وتقديم الرعاية، والعمل في الوقت ذاته. 

وبحسب معهد Time Use Institute، تعاني 30% من الإسبانيات المتمتعات بأُسر من النقص التام بالوقت الشخصي.

وقد يكون هذا أيضًا أحد أسباب تأخر مستويات الإنتاجية في إسبانيا مقارنةً بدول أخرى في أوروبا.

وقالت جونكيه: "تشير جميع المؤشرات إلى أنّه كلما طالت مدة بقائك في العمل، كلما قلّت إنتاجيتك".

ولأعوام عديدة، صارعت إسبانيا مع كيفية إصلاح ساعتها الداخلية، وهي قضية تتجاوز الخطوط الحزبية السياسية.

وفي عام 2016، حاول رئيس الوزراء الإسباني المحافظ، ماريانو راخوي من الحزب الشعبي، إعادة عقارب الساعة الإسبانية إلى توقيت غرينتش دون جدوى.

وتدعو الحكومة الحالية، برئاسة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز من الحزب الاشتراكي، إلى تقليل ساعات العمل، وزيادة المرونة. 

كما أنّها فرضت زيادة في الأجور لأولئك الذين يعملون بين الساعة 10 مساءً حتى الساعة 6 صباحًا.

ولذلك أثر كبير على صناعة الخدمات والسياحة في إسبانيا، وخاصةً على مشهد تناول الطعام في وقتٍ متأخر من الليل.

لحظات ذهبية

ليالي إسبانيا الطويلة تغضب البعض.. هل نمط الحياة "الجنوني" هذا في طريقه للاختفاء؟
ثمة نداءات لخفض ساعات العمل وزيادة الأجور للعاملين في الليل. Credit: Tim Graham/Getty Images

وفي إسبانيا، لا تصل حشود فترة العشاء إلى ذروتها إلا بعد الساعة العاشرة مساءً، وفقًا لصاحب مطعم يُدعى داني غارسيا.

وهذا يعني أنّ أصحاب المطاعم يتحملون العبء الأكبر من التكاليف.

وقال غارسيا: "قد تجد بالتأكيد سياح ألمان وإنجليز يأملون في تناول العشاء في الساعة السادسة مساءً، ولكن الحشود المحلية لا تتجه إلى الطاولات حتى الساعة العاشرة مساءً".

كما أكّد غارسيا: "لا يمكنك استعجال العملاء.. ولكن إذا تأخروا، فأنت تدفع أكثر. وليس فقط عندما يأتي الأمر للرواتب، بل عند دفع الموظفين لركوب سيارات الأجرة إلى المنزل في الساعة الثانية صباحًا".

ولدى إسبانيا كلمة للدلالة على البقاء عند تناول وجبة جيدة، وهي Sobremesa.

والترجمة الحرفية لهذه الكلمة هي "فوق الطاولة"، ولكنها تصف تلك اللحظة الذهبية بعد تناول وجبة جيدة مع الأصدقاء، والعائلة، والاستمتاع بكوب من القهوة، أو بمشروب بعد تناول الطعام.

وهذه اللحظة رائعة بشكلٍ خاص خلال أيام الصيف الطويلة في إسبانيا.

ولا يزال هناك الكثير من الأشخاص الذين يملأون مساحات تناول الطعام الخارجية بعد منتصف الليل في حي "إل كارمن" الشهير بفالنسيا.

وتصاحب هذه الفترة كميات طعام أقل، والمزيد من زجاجات النبيذ، والكثير من الضحك، وبعض الرقص العفوي.

ومع أنّ السياسيين قد يتجادلون حول ساعات العمل، يبدو أنّ رواد المطاعم الإسبان لن يغيروا عاداتهم قريبًا.