حرية العقيدة بالمغرب.. الأقليات الدينية الصـامتة- رأي لسامي المودني

العالم
نشر
13 دقيقة قراءة
حرية العقيدة بالمغرب.. الأقليات الدينية الصـامتة- رأي لسامي المودني
يهود أوثودوكس بالمغربCredit: ABDELHAK SENNA/AFP/GettyImages)
هذا المقال بقلم سامي المودني، صحافي مغربي بقناة ميدي1 تيفي الإخبارية ولا يعبّر عن رأي CNN بالعربية.    قبل أسابيع قليلة أطلق نشطاء مغاربة مسيحيون، قناة على موقع "يوتوب"، من أجل بث عدد من الفيديوهات الخاصة بهم، الهدف منها هو الإعلان عن وجودهم بوجوه مكشوفة، باعتبارهم أقلية دينية تدافع عن حقوقها في المواطنة الكاملة. وهذا الأمر يعد تحولا كبيرا في سلوك طائفة دينية بالمغرب لا تدين بالإسلام السني المالكي، إذ لم يكن أي مغربي مسيحي يجرؤ على الإعلان عن معتقده علانية لاعتبارات قانونية ومجتمعية، اللهم استثناءات قليلة جدا، نذكر من بينها الملقب بـ"الأخ رشيد"، وهو منشط برنامج "سؤال جريء"، في إحدى القنوات المسيحية التبشيرية، التي تبث من أوربا، والذي لم يكن يجد حرجا في إعلان تحوله من الإسلام إلى المسيحية والإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام بهذا الشأن منذ سنة 2010.    هذه الخطوة الأولى من نوعها، والتي أقدم عليها هؤلاء المسيحيون أعادت الجدل بشأن حرية العقيدة في بلد تدين 99 في المائة من ساكنته بالإسلام السني، بينما يدين 1 في المائة من السكان باليهودية (المعترف بها قانونيا) والمسيحية والشيعة والبهائية بالإضافة إلى الملحدين واللادينيين.. وبالنظر إلى إضمار أغلبية المسحيين والبهائيين والمسلمين الشيعة لمعتقداتهم الدينية، فإن الحصول على إحصائيات دقيقة وعلمية بشأن الأقليات الدينية غير المعترف بها قانونيا في المغرب يعد أمرا في غاية الصعوبة.    لهذا تبقى التقارير السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية بشأن وضعية حقوق الإنسان بالمغرب، من المراجع القليلة المعتمدة التي تمنحنا نظرة أولية بشأن بعض الإحصائيات، فتقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان لسنة 2014 قدر عدد أفراد اليهود المغاربة بين 3000 و4000 مواطن، يقيم حوالي 2500 منهم بالدار البيضاء، فيما يتوزع الباقي على جميع أنحاء البلاد وهم في الغالب من كبار السن. ويصل عدد المغاربة المعتنقين للمسيحية حوالي 4000 شخص معظمهم أمازيغ، يقيمون شعائرهم بالكنائس، في حين يقدر بعض المشرفين على الكنائس، عددهم بحوالي 8000 مغربي مسيحي.   كما يقدر التقرير نفسه عدد البهائيين المغاربة بحوالي 400 شخص بهائي، بالإضافة إلى حوالي 8000 مواطن شيعي أغلبهم يتحدر من دول لبنان وسوريا والعراق مع أقلية منهم من المغاربة الذين اعتنقوا المذهب الشيعي.    خلال إنجازي لتحقيق بعنوان: "الخارجون عن دين الدولة بالمغرب"، منشور في جريدة المساء المغربية، بتاريخ 10 فبراير 2013، كانت لي فرصة اللقاء مع عدد من المغاربة الذي قرروا اعتناق الديانة المسيحية أو البهائية أو تشيعوا، واتضح لي من خلال شهاداتهم أنه، بينما تضمن الدولة للمواطنين اليهود وأيضا للأجانب حريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية دون قيود، نجد أن كل من البهائيين والشيعة وحتى المسيحيين المغاربة لا يتوفرون على أماكن لممارسة عباداتهم ولا يحق لهم الإعلان عن ديانتهم أو مذهبهم ولا تعترف الدولة بخروج هؤلاء من الدين الإسلامي السني على مذهب الإمام مالك المعتمد بالمغرب من الأصل.    بل الأكثر من ذلك، سبق للمجلس العلمي الأعلى، وهو أعلى سلطة دينية في البلاد، أن أدلى برأي نشر في أبريل سنة 2013،  مفاده أن من يغير دينه وجه إقامة حد المرتد عليه، مؤكدا أن "من يخرج عن دين آبائه وأجداده ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام وكفرا به، وتترتب عليه أحكام شرعية خاصة، ويقتضي دعوته للرجوع إلى دينه والثبات عليه، وإلا حبط عمله الصالح، وخسر الدنيا والآخرة، ووجب إقامة الحد عليه".    كما أن فانسون لانديل، رئيس أساقفة الرباط بالكنيسة الكاثوليكية، سبق له أن صرح بأن الكنيسة ترفض "تحول مغاربة من الدين الإسلامي إلى الدين المسيحي...هذا ما ينص عليه القانون وما علينا سوى احترامه"، بما معناه صعوبة ولوج المسيحيين المغاربة الكاتوليك إلى كنائس الرباط والدار البيضاء ومراكش... من أجل أداء شعائرهم الدينية.     والواقع فإن الجدل بشأن حرية العقيدة أو الضمير بالمغرب، يعود إلى منتصف القرن الماضي، وبالضبط 6 سنوات بعد استقلال المغرب عن الاستعمار الفرنسي، فسنة 1962 عرفت البلاد حدثا بارزا تمثل في محاكمة 13 شابا مغربيا في مدينة الناضور وشخص سوري الجنسية اعتنقوا الديانة البهائية، بتهم إثارة القلاقل والمس بالنظام العام، وقضت المحكمة، حينها، على 3 منهم بالإعدام وحكمت على 5 بالمؤبد، مع الأشغال الشاقة، وعلى البقية بـ15 سنة سجنا نافذا.    وقد صرح حينها الملك الراحل الحسن الثاني في حديث صحافي أجراه يوم 12 دجنبر 1962، بأن مضمون البند السادس من الدستور لا يسمح، بأي حال من الأحوال، بالتبشير بمذاهب وديانات مخالفة للإسلام، كما أنه لا يفيد بقبول البهائية، التي تعتبر "زندقة" في نظر الإسلام. هذا التصريح لم يمنعه من التدخل للعفو عن هؤلاء البهائيين وإطلاق سراحهم بعد زيارة قام بها للولايات المتحدة الأمريكية، ونتيجة للضغط الذي مورس على المغرب دوليا بشأن هذه القضية.     الجدل بشأن حرية العقيدة، سوف يعود إلى الواجهة إبان الإعداد لدستور المملكة الجديد سنة 2011، خلال فترة الحراك العربي. حينها هدد عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، بالتصويت بـ"لا" على الدستور، لما تسرب إلى علمه أن لجنة إعداد الدستور تقترب من التنصيص على حرية المعتقد في دستور المملكة الجديد، وقال حينها في مهرجان خطابي بمدينة تمارة: "ماذا تعني حرية العقيدة؟ السماح بالإفطار علنا خلال شهر رمضان؟ إشاعة الحرية الجنسية والشذوذ الجنسي بين عامة الناس؟"، بل إن الشخص الذي سوف يعينه الملك محمد السادس رئيسا للحكومة بعد انتخابات 25 نونبر 2011، قال إن التنصيص على حرية العقيدة في الدستور تعني "نهاية إمارة المؤمنين"!..    تهديدات بنكيران وتحذيرات حزبه والجناح الدعوي التابع له "حركة التوحيد والإصلاح"، كانت كافية لكي تتراجع اللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة الدستور عن التنصيص على الحق في حرية العقيدة، وضيع المغرب حينها فرصة تاريخية من أجل الاعتراف بواحدة من الحقوق الأساسية الواجب توفرها في أي دولة ديمقراطية، وذلك بسبب اعتبارات إيديولوجية ضيقة.    وإن كان الدستور لا ينص اليوم صراحة على حرية العقيدة، فإن القانون لا يمنع بشكل صريح تغيير أي مواطن مغربي للدين الإسلامي السني من تلقاء نفسه. فالفصل الـ220 من القانون الجنائي المغربي يعاقب فقط كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، كما أن الفصل المذكور من القانون الجنائي يوحي في طياته بأنه يتحدث عن الأطفال بدرجة أولى والفقراء بدرجة ثانية ومحاولة استهدافهم لاعتناق دين آخر غير الإسلام.   هذا التحليل يؤكده الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بفاس سنة 2014، عندما حكمت ببراءة محمد البلدي، الذي كان متهما بزعزعة عقيدة مسلم بسبب اعتنناقه للدين المسيحي، بعدما اتضح لهيأة المحكمة أن الشخص المذكور غير ديانته من تلقاء نفسه ولم يسعى إلى نشرها، وسجل حينها القاضي الطيب الخياري، رئيس غرفة الجنايات الاستئنافية بمحكمة الاستئناف بفاس، صاحب هذا الاجتهاد القضائي، سابقة قانونية تدعم حرية التدين وإظهار المعتقد في المغرب عبر اعتماد قراءة غير متشددة للفصل 220 من القانون الجنائي.   يضاف هذا الحكم، إلى مصادقة المغـرب في شهر أبريل 2014 على قرار أممي صادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ينص "على ضرورة حماية حق كل فرد في اختيار معتقداته وإظهارها وممارستها بالتعليم والممارسة والتعبد وإقامة الـشعائر علانية"، كما يؤكد القرار على "حرية الأفراد في أن يكون أو لا يكون لهم دين أو معتقد.. بما في ذلك حقه في تغيير دينه أو معتقده".   إن ما سبق ذكره، يبين أن مجموع قرارات الحكومة المغربية، بشأن حرية المعتقد تتميز بعدم التجانس فيما بينها. هذا لا ينفي أن هناك عدة إشارات إيجابية بهذا الشأن، أبرزها التسامح مع معتنقي الديانات والمذاهب غير المعترف بها وعدم اللجوء إلى اعتقال بعض رموزها رغم مجاهرتهم بمعتقداتهم الدينية، ومن دون شك فإن الأجهزة الأمنية تتوفر على قائمة بأسمائهم، وتعمل في كثير من الأحيان على حمايتهم من المتطرفين.    هذا ما يؤكده عدد من البهائيين مثلا، في لقاء صحافي جمعهم مع كاتب هذه السطور، بتأكيدهم على أن "الحكومة المغربية لا تضايق البهائيين، رغم معرفتها بهم، وهم أيضا لا ينكرون أمر اعتناقهم هذا الدين، وبخلاف المغرب فإنه في مصر شنت حملة على البهائيين قبل حوالي ثلاث سنوات واضطروا إلى خوض معركة قضائية ضد الحكومة المصرية، وفي إيران لا يمكن أن تجهر بكونك بهائيا من الأصل"، لكن هذا لم يمنع الشيعة والمسيحيين المغاربة من المطالبة بعدد من حقوقهم المدنية.    وإن كانت الدولة المغربية لا تعارض الاعتراف بشكل تدريجي بحرية العقيدة، فإنها تواجه عدة إشكاليات في سبيل هذا الاعتراف، أبرزها تزايد المد الأصولي والسلفي المتطرف في البلاد وثانيها ضرورة ضمان ألا يشكل هذا الاعتراف مساسا بالدور المحوري الذي تقوم به إمارة المؤمنين بإجماع كل الفاعلين السياسيين والحقوقيين، في تدبير الشأن الديني بالمغرب، والتي تعد صمام الأمان للحد من الفوضى داخله.   ويضاف إلى ذلك تخوف الدولة في المستقبل أن تشكل هذه الأقليات ذريعة لتدخل بعض القوى في شؤونها الداخلية وإثارة القلائل، وخصوصا بالنسبة إلى الشيعة المغاربة، والنموذج يأتينا من عدة دول تعرف وجود طائفة شيعية داخل ترابها (البحرين، لبنان، العراق...)، وهذا ما يفسر الحملة التي قادتها السلطات المغرب مثلا سنة 2009 بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الجمهورية الإيرانية، ضد الشيعة المغاربة ومصادرة كتبهم من المكتبات وإغلاق "المدرسة العراقية" بالرباط، بحجة سعي القائمين عليها إلى تمرير الأفكار الشيعية وسط التلاميذ، رغم أن الشيعة المغاربة ما فتئوا يشددون على أن ولاءهم للمغرب ولإمارة المؤمنين وليس لأي جهة ثانية.    ومهما كانت وجاهة المبررات التي تسوقها الدولة في تعاطيها مع إشكالية "حرية المعتقد" بالمغرب، فإن واقع الحال اليوم يقول إن هناك أقليات دينية ومذهبية تعيش بالمغرب وتحمل جنسية هذه البلاد، يقدر عددها بالآلاف، وفق تقديرات لتقارير دولية، ورغم ذلك فإنها لا تقدر على الإعلان عن معتقداتها بحكم أن القانون لا يعترف سوى بالمسلمين السنة وهم الأغلبية الساحقة واليهود المغاربة. إن دولة المواطنة تقوم على أساس مدني وليس ديني ومن غير المعقول أن تكون فئة من المجتمع المغربي مضطرة إلى العيش في ظل "سكيزوفرينيا يومية" ما بين معتقد تضمره وتمارس شعائره في المنازل سرا، وبين وضع مجتمعي يعتبرهم مسلمين سنة بالفطرة.   لهذا، لا مناص من التعامل مع هذا الواقع اليوم عبر الاعتراف رسميا بوجود مغاربة غير مسلمين سنة، وضمان حقهم في التدين وحرية الضمير والعقيدة شأنهم في ذلك شأن اليهود المغاربة، وهذا لن يضر في شيء الوضع الدستوري في البلاد، مادام الملك هو أمير المؤمنين، أمير لكل المؤمنين: مسلمين ويهود ومسيحيين وأيضا بهائيين.