رأي: ما هي دلالات مقتل تاجر السمك محسن فكري؟

العالم
نشر
9 دقائق قراءة
تقرير رشيد جرموني
رأي: ما هي دلالات مقتل تاجر السمك محسن فكري؟
Credit: AFP getty images

هذا المقال بقلم د. رشيد جرموني، أستاذ علم الاجتماع بجامعة مولاي اسماعيل بمكناس، ولا يعبّر عن رأي CNN بالعربية.

-- شكل حدث مقتل "محسن فكري" شهيد الكرامة بالمغرب، لحظة أساسية لتأمل جزء من بعض التحولات المجتمعية في  المغرب المعاصر، ذلك أن هذا الحدث البارز في سنة نهاية سنة 2016، سيبقى ذاكرة محفورة في الوعي المجتمعي للمغاربة. لأنه ليس بالحدث العادي و الظرفي، بل إنه يؤشر في نظرنا المتواضع، عن تحول كبير في علاقة المجتمع بالدولة. فلم نعد أمام مجتمع ميت أو مخدر أو غارق في الأمية أو غير مكترث بما يقع حوله، ولم يعد المواطن العادي والبسيط يسكت عن "الحكرة" التي تقع عليه من طرف أجهزة الدولة، أو غيرها. إننا بكلمة واحدة، أمام ميلاد جديد لمجتمع يتحول.

ولكي نفهم المسألة في نظرة شمولية، فنحن –نعتقد- أن الحدث، لا يمكن أن يقرأ بمعزل عن مجمل الانساق الثقافية و السياسية والاقتصادية والتنموية والمجتمعية، فكيف ذلك؟

أولا على المستوى الثقافي (الحراك بين الافتراضي والواقعي، في تحول السلطة)

أعتقد أنه لا يمكن فهم سر التحول الذي حصل في كافة المجتمعات ومنها المغرب، دون النظر إلى التحول في "السلطة" بمعناها الفوكوي (نسبة إلى ميشيل فوكو)،  والتي تجسدت من خلال امتلاك الفاعل المجتمعي لآليات لايصال موقفه واحتاجاته ومعاناته و"حكرته" ونضاله عبر وسائط الانترنيت بكافة تلويناتها وأنواعها. 

وبدون شك فعالم الانترنيت ، بكل ما يحمله من ثورة حقيقية في كل المجتمعات،  أحدث تغيرات عميقة في كل شرائح المجتمع .ولهذا يمكن القول أن  الانترنيت  له دور في تغيير قناعات العديد من شرائح المجتمع. وقد تفاعل معه الشباب بشكل سريع ، والأهم في هذا السياق هو سقوط جدران الخوف والتحفظ والتردد.  حيث يتم التعبير في العالم الافتراضي بكل حرية وطلاقة. 

وهذا ما يجعلنا نتحدث عن تملك المجتمع  لجزء من السلطة التي كانت محتكرة في يد نخبة مهيمنة،  والتي كانت تستفرد بالسلطة والثروة والمعرفة والقيم. لكن مع هذا التحول استطاع الفرد العادي والبسيط أن يكون له صوت يسمع ومنبر يتكلم من خلاله وجمهور يتواصل معه، ولم تعد وسائل الإعلام التقليدية التي كانت تملكها الدولة وبعض اللوبيات أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية والدينية، هي المسيطرة والمحتكرة للسوق المعلوماتي ولتداول المعطيات، بل أصبح الأمر مشاعا. أو لنقل بلغة أخرى، لقد تفتت السلطة، ولم تعد بيد أحد، بل هي ملك للجميع.

ولهذا فأكبر تحول نشهده اليوم –سواء مع هذا الحادث أو غيره- هو أن المجتمع بدأ يتملك رأيه ومواقفه، ويعبر عنها في لحظات معينة، حينما تقع مثل هذه الأحداث. وأكبر من ذلك، إنها ايذان بصحوة ديمقراطية، ذات أبعاد سياسية وحضارية كبرى، فقد أصبح مطلب الحرية والكرامة والعدالة هي الأيقونات التي تغنت بها الجماهير التي خرجت في الاحتجاجات الاخيرة.

ثانيا: في تجاوز المؤسسات السياسية والنقابية وبروز خط ثالث

إن الحدث المأساوي الذي راح ضحيته شهيد الكرامة "محسن فكري"، بين أننا بتنا أمام خط ثالث في الحراك الشعبي، والذي بدأ يضع موضع نقد ما تمثله المؤسسات السياسية والنقابية. حيث أنه برز بشكل ملحوظ أن الحراك الاحتجاجي والانتفاضي الذي عبر عنه الشعب المغربي، تولد خارج القنوات التقليدية والكلاسيكية، بل إنه فاقها في نضاله ومطالبه. لكن الملاحظ أن أغلب الاحزاب والهيئات السياسية، بقيت خارج الحدث لأنها سقطت في براديغم الاستقرار بدل الفوضى. وكأنها تقول لكل المحتجين لا تنتفضوا فهذا الحادث لا يمثل استثناء في العالم، فهو يقع في العديد من الدول.

وقد كان مفاجئا أن يدخل حزب العدالة والتنمية على الخط، لكي يطلب من أعضائه ومتعاطفيه أن لا ينخرطوا في هذه الاحتجاجات، بدعوى أنها "فتنة" أو أنها غير محسوبة العواقب؟ أو أنها غير مؤطرة، وقد يستغلها البعض لكي يضر بالاستقرار الذي ينعم به المغرب. 

إن هذه الدفوعات والتبريرات التي روج لها البعض –حتى والد الضحية بدأ يتحدث بهذا الخطاب- تؤشر على مفارقة حقيقية؟ إذ كيف يمكن أن نفهم الاستقرار في ظل وجود "الحكرة" على المواطنين؟ أليس هذا هو الاستحمار للشعب؟ لما نجد في الدول الديمقراطية آلاف الوقفات الاحتجاجية لكن لا أحد يخرج ويقول إنها ضد الاستقرار. لماذا يريد البعض أن يفقد المجتمع من جزء من سلطته وكلمته؟ 

إن هذا الحدث وما تلاها من مواقف ومن بلاغات، خصوصا مسألة ربط الاستقرار بعدم الخروج للاحتجاجات، يدل على ان بعض النخب وبعض الاحزاب السياسية والنقابية لا تدرك طبيعة التحول الذي حصل في المجتمع، ولا تدرك اننا في مرحلة جديدة عنوانها الأبرز هو مطالب العدالة والحرية والكرامة، غير قابلة للمساومة ولا للرهانات السياسية أو الحسابات الانتخابوية أو الحكومية. ولعل في ذلك أبلغ درس يمكن أن يلتقطه المسؤولون السياسيون في هذه المرحلة.

ثالثا: المستوى التنموي والاقتصادي (إشكالية الفساد)

من بين القراءات التي يمكن أن نستجليها من هذا الحدث، هو أنه بمثابة  النقطة التي أفاضت الكأس في موضوع الفساد والتنمية المعطوبة بالمغرب المعاصر. ذلك أن الحدث –في نظرنا- لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نعزله عن عمق الاشكالية التي لا زالت مستشرية بربوع المملكة، وهي إشكالية الفساد. فغير خاف على أحد، أن المغرب يعد من بين الدول التي لا زال يعاني من "اقتصاد الريع". حيث أن هناك نخبة من المتنفذين الذين لا زالوا يستغلون أهم ثروات البلاد وخصوصا الثروة السمكية.

إذ-كما هو معلوم- أن العديد من هؤلاء يتوفرون على رخص للصيد بأعالي البحار، ولم تستطع حكومة عبد الاله بن كيران  السابقة، أن تقترب من الملف، لأنه جد ساخن ولانه يمس فئة غير "عادية" بمغرب الألفية الثالثة. وهذه المسألة تجعلنا نطرح سؤالا محرقا: كيف يمكن أن نحاسب مواطنا بسيطا دفع ثمن السمك دون أن نحاسب المسؤول الأول؟ وهو بطبيعة الحال، من اصطاد السمك في فترة الراحة البيولوجية؟ إن الاجابة عن هذا السؤال، هي مسألة الحكومة اولا وأخيرا. وعليها ان تتسلح بالجرأة الكافية للكشف عن المستفيدين من هذه الرخص؟ وأن تدفع في اتجاه محاكمة كل من خرق القانون. فلا أحد فوق القانون، كما يقول فقهاء القانون. 

هذه هي الاجابة التي ينتظرها كل الشعب، حتى يطمئن أن هناك حكومة مسؤولة وأن الكل سواسية أمام القانون. أما حيلة "استدراج" بعض أكباش الفداء، كما وقع في ملف البيدوفيلي الاسباني (كالفن) فذاك ما سيؤجج الحراك مجددا، وربما لن يعرف أحد مآلاته ولا مستتبعاته.  

بيد أن الأمر لا يتوقف عند حد الكشف عن حقيقة الأمر ومن هو الجاني الأول، بل إن الأهم هو تقديم الجواب التنموي في منطقة الحسيمة وغيرها من مناطق المغرب العميق وغير العميق. ونقصد تحديدا، إعادة النظر في ما يسمى "اقتصاد الريع" والقطع مع سياسية التمييز بين المواطنين في الاستفادة من عوائد التنمية بالبلاد. فلا يعقل أن نستمر في هذا الوضع، وإلى متى؟

إن هذه الحادثة المأساوية تسائل صانعي القرار في المغرب، من أجل إعادة النظر في كيفية توزيع ثروات البلاد بشكل عادل وبشكل فيه استحقاق وعدالة اجتماعية، بل وأكثر من ذلك، إنصاف لبعض الفئات والطبقات، هذا إذا أردنا الاستقرار الحقيقي، الاستقرار الذي تتكامل فيه التنمية والديمقراطية والكرامة.