مضى اقل من عقد، منذ بداية مهنتي في الصحافة، كمنتجة عندما وصلت إلى بغداد قبل أسابيع من دخول القوت الأمريكية إلى العراق.
تغير الكثير.. وسقطت العديد من الأنظمة التي كان يُعتقد أنها لا تقهر.. من نظام صدام حسين بمساعده التحالف الغربي، إلى نظام بن علي، وصولا إلى نظام القذافي، كلها أنظمة أزالتها إرادة الشعوب.
سٌفكت الدماء، وسالت في الشوارع، وذاكرتي مليئة بالصور، أتوقف لحظات واّقلب هذه الصور في مخيلتي.. ثم أعيش تلك اللحظات مرة أخرى، وكأنني هناك.
الألم في العراق كان ولا يزال مروعا، ولا زال الحزن الخانق يلف الحياة اليومية للعديد من العراقيين، دون أي ملامح لمستقبل أفضل.
قصص الحرب والقتلى والتعذيب لا تنتهي.. أحياء بأكملها انقلبت ضد بعضها البعض، معتقدين انه إما أن تَقتل أو تُقتل.
عرف العراقيون الشر في فترة حكم صدام حسين، ولكن الشر الذي كشف عنه بُعيد اقتلاع النظام لا يمكن للعراقيين أن يفهموه أو حتى أن يتعافوا منه، ومن بين هذه القصص الحزينة من قابلنا وكانوا بالفعل من أكثر الأشخاص إلهاما.
نهلة النداوي، واحدة من بين مئات الآلاف من العراقيات اللواتي يعرفن مرارة الموت، زوجها محمد قتل في حادث تفجير العام 2007، واضطرت إلى التعرف على جثته من بين 10 جثث كانت موجودة في المشرحة ذالك اليوم، من خلال علامة على ركبته.
في ذلك الوقت، قالت لنا نهلة: "أصبحت الحياة بلا ألوان، فقط ابيض واسود."
أتذكر أنها كانت تعانق ابنها وتتساءل كيف ستواصل الحياة وصورة الرجل الذي أحبته، وهو في المشرحة، مطبوعة في ذاكرتها.
رأيتها في آخر رحلة لي إلى بغداد وكان لا يزال السواد يطغى على خديها، سمعت ضحكتها لأول مرة عندما تعثرت قدمها، ولكنها اعترفت أنها تشعر وكأنها تلبس عباءة الموت، ومع كل ذلك نهلة ترفض أن تستسلم للحياة، بل نشرت (نهلة) كتابا تلقي باللوم به على أعضاء الحكومة العراقية، ولا تخاف من توجيه الاتهامات ضدها.
هناء ادوارد، ترأس منظمة الأمل غير الحكومية، قامت بمقاطعة مقابلة تلفزيونية لرئيس الحكومة العراقية نور المالكي، كان يتحدث فيها عن حقوق الإنسان، واصفا بعض نشطائها بالإرهابيين.
وصرخت ادوارد: "نحن منظمات حقوق الإنسان، تصفنا بالإرهابيين؟" حيث حظي هذا المقطع إقبالا كبيرا على موقع اليوتيوب.
كانت تعرف أنها قد تقتل في أي لحظة، نظرتها المتشائمة من المستقبل لم تمنعها من التأكيد على أنها لن تكسر أو تهبط عزيمتها، مقدمة بذلك مثلا أعلى لنوف آسي، الفتاه ذات 21 عاما، التي تعمل معها في المنظمة.
قابلنا الطالبة نوف آسي، التي رأت كيف تحول التوتر حول مدرستها إلى عمليات قتل وانتقام، حيث قالت: "آخر مرة بكيت فيها عندما رأيت جثة بدون وجه بعد أن تم إطلاق النار عليها."
وأضافت نوف: "ضربتني أختي ذات مرة وطلبت مني البكاء، إلا أنني لم ابكي بعد رؤية كل هؤلاء الموتى، وبعد رؤية أشخاص قتلوا أمام عيني، إلى درجة أن الحياة لم تعد تعني لي شيئا." إلا أن كل ذلك لم يمنع نوف من الضحك والابتسام.
وإلى سوريا، حيث التقيت الدكتور إبراهيم عثمان، اسود الشعر، عيناه تمتلئان بالألم، وحس الفكاهة الغريب، كان يجري بعض المعاملات المتعلقة بالإقامة لدى الحكومة السورية عندما اشتعلت المظاهرات في سوريا، وقال إنه سيشتري دراجة نارية وينشئ فرقة روك موسيقية.
تعرفنا على عثمان في احد المظاهرات المناوئة للحكومة، وقد اخبرنا كيف أن العديد من الأطفال توفوا بين يديه، وهو غير قادر على مساعدتهم.
وقال: "كان أمرا مريرا، مريرا جدا، أن ترى أناس وهم يموتون بين يديك وأنت غير قادر على مساعدتهم."
الدكتور إبراهيم قتل عندما كان يحاول مغادرة الجمهورية السورية في كانون الأول/ ديسمبر، على بعد عشرة دقائق عن الحدود التركية- السورية.
كلما أتذكر الدكتور إبراهيم، أتذكر قوله لي: "أودع أمي في كل مرة أغادر فيها المنزل، والسبب هو ذلك الشعور أني قد لا أراها مرة أخرى."
وأخشى أن العقد القادم سيكون دمويا كما كان العقد الذي مضى.
ترحب شبكة CNN بالنقاش الحيوي والمفيد، وكي لا نضطر في موقع CNN بالعربية إلى مراجعة التعليقات قبل نشرها. ننصحك بمراجعة إرشادات الاستخدام للتعرف إليها جيداً. وللعلم فان جميع مشاركاتك يمكن استخدامها، مع اسمك وصورتك، استنادا إلى سياسة الخصوصية بما يتوافق مع شروط استخدام الموقع.
الآراء الواردة أدناه لا تعبر عن رأي موقع CNN بالعربية، بل تعكس وجهات نظر أصحابها فقط.