رأي حول ما يجري في مصر.. هل هي عدالة اجتماعية أم اقتصادية؟

نشر
8 دقائق قراءة
تقرير محمد محمود الإمام
بائع خبز مصري يركب دراجته ليوزع الخبر مع حلول موعد الإفطار في أحد أيام شهر رمضانCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم محمد محمود الإمام، وزير التخطيط المصري الأسبق، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

محتوى إعلاني

لست في حاجة إلى التنويه بأن العدالة الاجتماعية هي الهدف المحوري للثورة، فهي التي تكفل لكلٍّ أن يحصل على حصة لا غنى عنها من أول الأهداف وهو العيش؛ ثم هي توأم للحرية، لا يستقيم أحدهما بدون الآخر؛ كما أنها ركن ركين للكرامة الإنسانية، فالظلم أقسى معول ينحر في كرامة آدمي. كما أنني لست بحاجة إلى التذكير بأن غالبية الحديث عن تلك العدالة انصب على ضرورة ألا يتدنى الأجر عن حد يتيح لكل ذي أجر الحصول على قدر من الأساسيات بدونه يضنيه العوز ويشعر بهوان الفاقة. وصاحب ذلك تصاعد في الدعوة إلى ضرورة فرض حد أعلى للأجور، خاصة وأن هذا يقلل من شأن الحجة التي يُتذرع بها بمحدودية الموارد التي تفي بمتطلبات رفع الحد الأدنى. غير أن ذلك في واقع الأمر يفرغ الدعوى من مضمونها.

فرغم أنها تضع من يعارضها موضع اتهام بأنه يستمرئ الظلم السائد، إلا أن بها من الثغرات ما يُضعف جدوى التشبث بها دون تمعن. فهي تجعل الأمر يبدو وكأن الظلم يقتصر على العاملين في الجهاز الحكومي، وهم وإن كانوا كثرة إلا أنهم لا يضمون قائمة العاملين كاملة. -- محمد محمود الإمام فهم بدايةً موظفون، بينما الملايين عاطلون لا يحصلون على أجر على الإطلاق. فهناك العاملون في القطاع غير المنظم وهؤلاء لا يعترفون بقواعد السوق ولا تندرج دخولهم ضمن الوعاء الضريبي الذي يهيئ موردا لإعادة التوزيع. ونشهد حاليا حالة من الفوضى بسبب انتهازهم القرارات الأخيرة للمغالاة في تحديد أجورهم، وهي عادة أصبحت قاعدة تحسن الدولة الآن بالعمل على كسرها، وإن كان هذا لا يمس المهنيين وفي مقدمتهم أطباء. وهناك عاملون خارج الجهاز الحكومي لم يجدوا بدا من رفع راية المطالب التي تُستنكر لأنها فئوية تطالب بحقوق ولو على حساب المجموع، وتضيّع في ذلك الفرصة التي هيأتها الثورة للقضاء على المنهج الفئوي الذي سمح لقلة أن تنفرد بثروات المجتمع وتسخّر الدولة لتصبح السبيل إلى النهب والفساد تحت ستار التخلص مما اعتبر اشتراكية الفقر، وإقامة نظام يجعل السوق هي الكيان الوحيد الذي يتمتع عندنا بالحرية، وتدعو لإصلاح اقتصادي بأسلوب دفع مؤسسات عالمية تطالب بأن يكون إصلاحا "ذا وجه إنساني". ورغم أن مفهوم التنمية تحول من تنمية اقتصادية، أو حتى من تنمية اقتصادية اجتماعية، إلى "تنمية بشرية مستدامة" فقد علت أصوات تدعو لأن يكون للتنمية ذاتها وجه إنساني. -- محمد محمود الإمام

***

يتضح من ذلك أن المتاهة التي نعيشها مرجعها خطأ مزدوج. أولا أننا حصرنا مشكلة اجتماعية في خندق اقتصادي في وقت بدأ العالم فيه يخرج من إطار المادية كما أوضحت في مقال الاثنين الماضي؛ وثانيا أننا زدنا الطين بلة بأن قصرنا الحوار حول جانب محدود منها، رغم أن الثورة قامت وتكررت بسبب وجوب إسقاط نظامين لأنهما مكّنا قلة من الاغتناء على حساب إفقار الغالبية بل والدولة ذاتها. -- محمد محمود الإمام وتم ذلك تحت ستار أن الاقتصاد هو المجال المتحكم في حياة البشر، وأنه يجب أن يتبع منهجا يراعي أقصى قدر من الكفاءة في استخدام الموارد، المادية والمالية والبشرية. ومعلوم أن للبشر فيه دوران: الأول يختص به رواد يتمتعون بالقدرة على فتح آفاق جديدة للتقدم، والثاني تتولاه قوى عاملة تكتسب مهارات في أداء مهام تحددها المعارف التي يحدد أبعادها أولئك الرواد. هذا التقدم ينتج أقصى قدر ممكن من الطيبات التي تفيد البشر. ومن ثم ترددت مقولتين: أن التنمية تتم بواسطة الناس ومن أجلهم؛ وأنه يجب تعظيم الكعكة حتى ينال كل مشارك في صنعها نصيبا أكبر عند توزيعها. فإذا اتضح أن البعض لا يفي نصيبه بتوفير حاجاته الأساسية تعيّن على الدولة إجراء عملية إعادة توزيع تحقيقا لعدالة حجبتها اعتبارات تعظيم الكفاءة، بدعوى أنه لو حملت كل وحدة إنتاجية بمراعاة العدالة أثناء التوزيع لتسبب ذلك في خفض للكفاءة ونقص في المجموع الذي يجري توزيعه.

***

وجه المغالطة في هذا النوع من التفكير أن السوق الذي توضع موضع التقديس لها جانبان: العرض الذي يتحكم فيه أصحاب القرار الإنتاجي، من المستثمرين وأرباب الأعمال، اعتمادا على امتلاكهم للموارد المالية والمادية، والطلب الذي يتشكل من الذين حققوا دخلا نقديا من إسهام في نشاط إنتاجي. فلا ذكر إذن لمن لم تتوفر لهم فرصة الحصول على ذلك الدخل، وليس لهم موردا آخر ينفقون منه، وكأنهم ليس لهم حق في البقاء على قيد الحياة، وكلما انخفض دخل الطالبين انخفض ما يحصل عليه العارضون، وضعفت الأرباح التي كانت هي الحافز لهم على الإنتاج. وعجبي لمن يتحدثون عن كفاءة تخصيص الموارد ويتعامون عن تعطل أهم الموارد وهم البشر وضعف عوائدهم. وحينما كشف لورد كينز منذ ثمانين عاما هذه الحقيقة، موضحا أن التوازن الكلي لا يكفل التوظيف الكلي، أشار بالاقتداء بقدماء المصريين، حينما كان الفراعنة ينتهزون فترة التحاريق فيدعون المزارعين إلى العمل في بناء المعابد والأهرامات ليوفروا لهم موردا للرزق انقطع عنهم. وقد ظل هذا التقليد ساريا واعتمدت عليه عمليات التشييد باستخدام عمال التراحيل. ويخطئ من يردد أن كينز كان بذلك يدعو إلى قيام الدولة بمنافسة رجال الأعمال وتعطيل عمل السوق، بل إنه فتح طريقا لتفعيلهما -- محمد محمود الإمام لأنه لم يتحدث عن المزاحمة في نشاط إنتاجي، بل القيام بإنشاءات تساهم في دعم البنيات الأساسية الإنتاجية والاستهلاكية، وتخفيض التكاليف على المنتجين، بما في ذلك بقاء الأجور التي يدفعونها متماشية مع ربحيتهم. ثم ظهرت بعد ذلك اقتصادات الرفاهة التي توفر خدمات أساسية خاصة في مجالات الصحة والتعليم، وهو ما يغني المنتجين عن دفع أجور نقدية أعلى لتمكين العاملين من الحصول على خدمات بسعر تكلفتها الذي يتزايد مع التقدم في كل من نلك المجالات، ليصبح مصدرا لربحية بدون مخاطرة تتسابق عليه رؤوس الأموال، الأجنبية قبل المحلية.

***

إن المعالجات التي يساهم فيها، ويا للأسف، بعض المؤهلين في علم الاقتصاد، تظهر أنه لا مغزى لحديث عن تصحيح مسار الاقتصاد بالادعاء أن الأمر يتعلق بصدقة تقتطع بدعوى العدالة الاجتماعية حفاظا على حرية اقتصادية مشوهة، وأن القضية تتعلق بعدالة اقتصادية هي شرط ضروري لتدعيم الكفاءة الاقتصادية. أما ما ينطبق عليه صفة "عدالة اجتماعية" فمجاله بُعد آخر من أبعاد المجتمع هو البعد الاجتماعي، خاصة في ظل الانتقال من تنمية الاقتصاد إلى تنمية الإنسان. وهذا له حديث آخر.

نشر
محتوى إعلاني