مقال حول سياسات الاقتصاد المصري .. "الضرائب والسياسة في مصر السيسي"
هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
لم يكد ينهي عبدالفتاح السيسي شهره الأول في رئاسة الجمهورية المصرية إلا وقد أصدر عددا من القرارات الاقتصادية التي طالما تجنب سابقوه الخوض فيها خوفا من آثارها الاجتماعية والسياسية، فقد رفض السيسي إقرار الموازنة المقدمة من الوزارة على الرغم من أنها كانت تقشفية، وردها لوزارة المالية بغية النص على المزيد من إجراءات التقشف بما يخفض من العجز ويهبط به إلى حدود 250 مليار جنيه، وترتب على هذا تعديلات في جانبي الإنفاق والإيراد، فمن ناحية تم رفع أسعار المحروقات لأول مرة منذ عام 2007، تنفيذا لمخطط تخفيض دعم الطاقة بمقدار 41 مليار جنيه دفعة واحدة للسنة المالية الجارية.
ومن ناحية أخرى أصدر السيسي قانونا بتعديل بعض مواد وأحكام قانون الضرائب بما يضع 10 في المائة على أرباح البورصة، ويفرض ضريبة مؤقتة على أرباح الشركات والأفراد بمقدار خمسة في المائة للسنوات الثلاث القادمة، مع تواتر أنباء عن العمل على تشريعات ضريبية جديدة خاصة بضرائب الملكية والقيمة المضافة، ويبدو من تسارع القرارات أن إعادة هيكلة مالية الدولة المصرية قد أصبح أمرا ملحا لا يجوز تأجيله، وأن المسألة فحسب هي اتخاذ ما يكفي من الإجراءات والقرارات ـ التي لا تحظى بقبول شعبي واسع بطبيعة الحال ـ بأقل تكلفة سياسية وأمنية، ويكون هذا بالاستثمار المبكر في شعبية السيسي، وتوظيف خطاب وطني يدعو المصريين لتحمل التكلفة الناجمة عن إجراءات التقشف من خفض الإنفاق العام وزيادة الضرائب.
يحكم رؤية الحكومة المصرية الحالية للاقتصاد تصوران رئيسيان، يدور الأول منهما حول خفض العجز الرقمي عن طريق تخفيض النفقات وزيادة الإيرادات، وبالتالي علاج بعض الاختلالات الموروثة من عهد مبارك، والذي اعتمد منذ نهاية التسعينيات على التوسع ـ بشكل غير مسبوق ـ في الاستدانة المحلية لتمويل العجز المتزايد. ويرى الفريق الاقتصادي ـ بوزارة المالية في المقام الأول ـ أن الاستمرار في نهج مبارك لم يعد ممكنا بعد وصول معدلات العجز والدين العام إلى مستويات شديدة الخطورة نتيجة للتباطؤ الاقتصادي وتراجع معدلات النمو التاليين على ثورة يناير/كانون ثاني عام 2011.
وأما التصور الثاني فهو توجيه التدفقات الرأسمالية المتوقعة من بلدان الخليج، خاصة الإمارات والسعودية، من الدعم المباشر لعجز الموازنة حيث تذهب المليارات الخليجية لتوفير المحروقات بشكل أساسي، وذلك إلى الإنفاق الاستثماري الكفيل بتدوير عجلة الاقتصاد، ورفع معدلات النمو والتشغيل.
ويتقاطع هذا الهدف مع خفض العجز الحكومي بما يحرر المزيد من الموارد بالجهاز المصرفي للائتمان الخاص بعدما تحولت الحكومة المصرية لأكبر مقترض من الجهاز المصرفي السنوات الأخيرة لتمويل عجز الموازنة. ويرى الفريق الاقتصادي بالحكومة أن الجمع بين الإجراءات التقشفية والتدفقات الدولارية القادمة من الخليج كفيلان بتحقيق الهدفين ـ المتضاربين إلى حد كبير ـ من استعادة النمو مع إصلاح الخلل الهيكلي في مالية الدولة ومن ثم استعادة ثقة المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء.
يستلزم علاج الاختلال الهيكلي في موازنة الدولة المصرية حسب رؤية الفريق الاقتصادي زيادة الإيرادات وتخفيض النفقات مع إعادة هيكلتها في السنوات الخمس القادمة، ويركز هذا المقال على جانب الإيرادات مع القرارات التي اتخذت بالفعل والخطط المعلنة، والتي ترمي في جانب منها إلى استهداف الفئات الحائزة لرأس المال وللملكية من خلال أسعار الضرائب على الأرباح وتوسيع قاعدة التحصيل الضريبي، فمن المثير أن إجمالي إسهام شركات القطاع الخاص في إيرادات الدولة من خلال ضرائب الأرباح الصناعية والتجارية والرأسمالية لم يتجاوز سبعة في المائة خلال الفترة ما بين 2008 و2012، وهي نسبة جد يسيرة ولا تعكس نصيب هذه الشركات في الناتج المحلي، وتعكس بالقطع إما اتساع التهرب الضريبي خاصة على الشركات الصغيرة والمتوسطة، وانتشار الإعفاءات والحوافز الحكومية للشركات الكبيرة.
ولا يبدو أن الأمر قابل للاستمرار حال توخي الحكومة لخطط جادة لزيادة الإيرادات، وينطبق الأمر نفسه على ضرائب الملكية إذ لم يتجاوز نصيبها 2.9 في المائة من إجمالي إيراد الدولة في ذات الفترة، بما يظهر بشكل لا يحتمل الشك أن الاستثمار العقاري شديد الضخامة الذي شهدته البلاد في العقدين الماضيين قد أفلت من أي استهداف ضريبي، ومن المعلوم أن الاستثمار العقاري كان هو الترجمة الأوضح للتراكم الذي تحقق لدى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى في مصر، والتي شهدت نموا مطردا في معدلات دخلها منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.
لقد سجلت الإيرادات الحكومية في مصر كنسبة من الناتج المحلي معدلات متراجعة منذ مطلع التسعينيات إذ لم تكن الدولة تملك من القدرات المؤسسية إدارية كانت أو سياسية ما يمكنها من استهداف مواطن الثروة والدخل التي لم تعد تخضع لملكيتها أو إدارتها مع تسارع التحرير الاقتصادي، وأدى هذا إلى الإفراط في الاعتماد على الموارد غير الضريبية كإيرادات قناة السويس ومبيعات النفط والغاز إلى جانب الضرائب غير المباشرة مع عدم القدرة على زيادة حصيلة الضرائب المباشرة على الدخل والثروة، وخلق هذا أزمة مالية مزمنة وخانقة بلغت مداها في السنوات الثلاث الماضية كما خلق نمطا معينا للعلاقة بين الدولة والفئات الرابحة من التحول الاقتصادي، جوهره حالة من التجاهل المتبادل إذا جاز التعبير. فالدولة من ناحية تتجاهل التراكم المتحقق لدى هذه الفئات الحائزة للملكية ورأس المال، وهؤلاء يتجاهلون ما تقدمه الدولة من خدمات عامة منهارة لضعف التمويل ويعتمدون على رعاية صحية وتعليم خاص.
بيد أنه لا يبدو أن هذه الصيغة قابلة للاستمرار بعد اليوم لأسباب عديدة على رأسها عمق الأزمة المالية التي تواجهها الدولة، والحاجة الملحة لزيادة الإيرادات الضريبية مع تراجع الريع الخارجي، وكذلك التكلفة السياسية المرتفعة للاعتماد على الضرائب غير المباشرة التي تستهدف الجميع بدون تمييز على أساس الدخل، ويظل السؤال الحقيقي يدور حول الأثر السياسي والاجتماعي بعيد المدى لمثل هذه الإجراءات المالية قصيرة المدى؟ كيف سيتفاعل مالكو رأس المال وأصحاب الملكيات مع رغبة الدولة المتزايدة في تحصيل الضرائب منهم؟ هل سيطالبون بالمزيد من التمثيل السياسي في مقابل الأموال التي يدفعونها؟