رأي.. النظرة للإنسان والأسئلة الصحيحة
هذا المقال بقلم ريم عبد الحليم، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
مع طرح الأسئلة الصحيحة، سوف تبدأ رحلة عبر علامات الاستفهام التي لا تنتهي، لتصبح هذه الرحلة هي متعتك الحقيقية من تناول القضايا الاقتصادية بالتحليل والتعليق.
أكثر حدث يجعل الاقتصادي يغير أفكاره ويتنازل عن مسلماته الرقمية بسرعة مذهلة هو بداية طرحه لتساؤلات تتعلق برؤيته للبشر بدلاً عن الحسابات. إن الأرقام خلقت للاقتصاديين عالماً هاماً بالفعل ولكنه فى أحيان كثيرة جاء موازياً للعالم الحقيقي، اكتشاف الباحث الاقتصادي لهذا المدخل الإنساني في معالجة القضايا الإقتصادية التي طالما اعتبرها صماء قد يسقط الكثير من معاني حساباته وتوازناته. لقد آن الأوان لإعادة اكتشاف النماذج الاقتصادية المتبعة من خلال طرح تساؤلات مثل "لماذا غضب البشر؟" -- ريم عبد الحليم "لماذا افتقر البشر أو تعطلوا لو كانت نظرياتنا وأرقامنا كافية؟"، "لماذا يمرضون، لماذا يجوعون، بل ولماذا يصمتون أحياناً عن أوضاعٍ اقتصادية واجتماعية لا يمكن تحملها؟!"
كثيرون من الواثقين وغير الواثقين في قدرة اقتصادات السوق والليبرالية الجديدة على خلق نمو يوفر حياة رغدة للجميع بشرط التنازل عن العدالة الاجتماعية، قد يحسرون أسباب فشل هذه المداخل في الفساد وغياب الحوكمة. شخصياً ظلت هذه القراءة لأسباب الفشل مصاحبة لي لفترة من الزمن، قراءة مريحة لا تُحمل النموذج نفسه بعيوب، بقدر ما ترجع الفشل لأسباب خارجة عنه، وكأنها أسباب تتعلق بالأساس بعدم تطبيقه بصورة سليمة. سؤال وجب طرحه لتحديد موقع الفساد وغياب الحوكمة فى تحليل أسباب فشل هذه المداخل؛ وهو: هل من الممكن إقامة النمو على تغييب العدالة دون وجود مساحة للفساد؟ الإجابة المنطقية على هذا التساؤل هي لا، فكيف تخلق أدوار تقوم على العمل لصالح المنتِج، والتفرقة بين صاحب رأس المال والعامل، لتمنح الأول حصرياً دور الحق فى تحقيق التراكم الرأسمالي أي الاستئثار بالفائض من تشغيل النموذج والثاني دور المدخل الرخيص لتيسير تحقيق هذا الفائض دون تشكيل مجتمع يقوم على شبكة مصالح ضيقة؟
***
إن مكافحة الفساد لا غنى عنها لتكسير شبكات المصالح المتكلسة، ومن ثم إتاحة جزء أكبر من ناتج عمل النموذج الإقتصادي للفئات خارجها ، فمكافحة الفساد كهدف نهائي لن تؤدي إلى إنجاح هذا النموذج، فسرعان ما تتكون شبكات مصالح جديدة تنبع بالأساس من قيام النموذج الاقتصادي على حماية مساحات التفاوت ولو مرحلياً؛ وفي أحيان كثيرة يتم تصدير الفساد للمجتمعات الأضعف، أو خلق هذه المجتمعات الأضعف والاعتماد عليها لتمويل استمرار النمو بصورته الضيقة؛ ومن ثم تبقى طبيعة النموذج نفسه محددة للاستحقاقات التي يتم توزيعها من حيث الطبيعة والتوقيت والمكان، فهي لا تمنح كل فرد بالقدر الكافي لتتحقق المساواة، بل بالقدر الكافي لبقاء أنظمتها من خلال تحسين شروط تكيف الأفقر والأكثر حرماناً معها ليس أكثر. ومن ثم فمكافحة الفساد تمثل هدف شديد المحورية ولكن في إطار النظرة الأشمل صوب تحقيق العدالة والمساواة.
فالمشكلة تكمن في النموذج ذاته والذي يتعدى الخلل فيه مرحلة اعتبار "البشر" عنصراً غير نادر، ومن ثم لا يجوز تسعيره بسعر مرتفع، ليمتد إلى عدم العمل على رفع جودة هذا العنصر -- ريم عبد الحليم من الأساس، فلا ضرر من ابقائه دون تنمية حقيقية، لكي يبقى متوفراً بسعر أرخص. نموذج يتكامل مع نفسه بشكل تلقائي ربما دون سوء نية، فقط يحدث، ويصبح أمراً طبيعياً.
ويستمر النموذج فى العمل حتى تضربه الأزمة الاقتصادية والتى يجب أن يتم تحميلها على الفئات الأفقر فيضيع تأثير أي تساقط "إن كان قد حدث"، فالدور المرسوم وفق هذا النموذج لابد وأن يمنح حق السبق فى الخروج من الأزمة للمنتج لكى يحفز النمو ويبدأ فى التشغيل؛ وفى حالة اعلان الدولة تفاقم عجزها المالي قد تتبع سياسات انكماشية تحمل الأزمة على الفقير الذي يحرم من خدماتها، وإن رفعت نسبة الفائدة على الأذون والسندات يستفيد أصحاب الثروات والودائع من رفع هذه النسبة، التي يمولها الفقير من مخصصات التعليم والصحة والخدمات والحماية الاجتماعية.
***
ربما لم يكن عالم السوق ليهتم بقضايا العدالة لو لم تثبت الدراسات الحديثة الصادرة عن مؤسسات التمويل الدولية ذاتها أن فترات انتعاش النمو تقصر كلما ارتفعت درجة التفاوت فى الدولة، بل إن تركيز الدخل في يد نسبة أقل من البشر يجعل ضربات الأزمات أعتى -- ريم عبد الحليم
لقد أيقظت الأزمات المالية العالم على التبعات المريرة للتنافس غير الحميد بين بناء الإنسان وإحداث النمو المطلوب لإيجاد فرصة عمل له، تناقضا يطالب الإنسان بالتنازل عن حقوقه الأساسية لكي يتم توفير الموارد المطلوبة لتمويل حصوله على هذه الحقوق! وفق النموذج المتبع العدالة تُعوق التراكم الرأسمالي، فيوضع الإنسان في مرتبة أدنى من الآلات والمعدات، بعد فترة لابد وأن يتوقف المكن عن العمل، لأنه لا يجد من يشغله، ولا يجد من ينتفع من تشغيله. ليس هذا فحسب، بل استدعت بعض الأزمات المالية أهمية تدراس الجانب من الاقتصاد المرتبط بقضايا البشر وتعبيرهم عن أسباب معاناتهم ورؤيتهم للأزمة -- ريم عبد الحليم
ظلت البرازيل وغيرها من الدول، نماذج ناجحة للكثيرين، ارتفاع فى النمو حتى بلغ 7.5% فى عام 2010، وتراجع فى نسبة الأسر تحت خط الفقر وخاصةً المدقع مع تراجع في قياسات عدم العدالة، ولكن وقعت الأزمة كذلك وانهار النمو لما لا يزيد عن 1% فى عام 2012؛ ليس هذا فحسب بل خرج المتظاهرون غاضبين على "الحلم البرازيلي" الذى ظلمهم.
حقيقة الأمر، إن الانخفاض الحادث في قياسات عدم العدالة فى توزيع الدخول بقى محدوداً للغاية بالنظر لارتفاعها، فقد تراجع مقياس جينى مما يقارب 0.6 فى عام 1999 إلى 0.55 فى عام 2009؛ هذا التراجع فى التفاوت في توزيع الدخول - والذي يرجع بالأساس إلى تحسين سياسات العمل والحد الأدنى للأجور- على الرغم من محدوديته الشديدة أسهم من ضمن إجراءات لتحسين إدارة الدولة في إحداث انخفاض في مؤشرات الفقر والفقر المدقع، كما أطال فترة الانتعاش الإقتصادي، كما تشير دراسات عدة.
ولكن الدراسات والأرقام ليست كل الحقيقة، إن المقالات التى كتبت لاستقراء اسباب غضب الشعب البرازيلي في الفترة الأخيرة أظهرت حقائق لن تذكرها الدراسات والتحليلات الإقتصادية الجامدة، فقد أكدت أن جانب كبير من هذا الغضب الواضح يرجع لاستمرار التفاوت الضخم فى الدخول، ولأبعاد أخرى من عدم العدالة تتمثل فى تركز الثروات وتركز صناعة النمو جغرافياً وطبقياً والذي تبعه تفاوت في حق المشاركة فى صناعة القرار فى أحيان كثيرة، بشكل جعل التحسن ليس مستدام، ولا يعكس حجمه الواقع كما تعكسه الأرقام.
فبرغم النجاح النسبي للتجربة البرازيلية بالأخص فى اقتناص بعض حقوق العمال والأكثر فقراً، فقد ظل النموذج الاقتصادي يعاني من اختلالات فى استهداف العدالة بشكل كامل، النمو المدفوع بالاستثمار الخاص والتصدير وحدهما لم يعد مستداماً، وتراجع الطلب بعد انتعاش قصير الأجل ليخلف وراءه إحباط المستهلك الذي فرح بدخله وأنفق ببطاقته الائتمانية أكثر منه. تصاعدت أصوات تشكو من تراجع الخدمات التعليمية والصحية وارتفاع تعريفة المواصلات العامة، فى جملٍ كثيرة مررت عليها كانوا يشكون من آثار التفاوت وما أنتجه من فساد ومن آثار الفساد وما انتجه من تفاوت.
***
إذا كنت تحيا فى وطن لم يشهد انخفاضا في قياسات نسبة الأسر تحت خط الفقر من الأساس، ولم يمنح العمال أية قنوات تفاوض تمكنهم من الحصول على حقوقهم، ويعاني تراجعا كبيرا في الخدمة الصحية والتعليمية والنقل العام، ولا يوجد به أية سياسات للحماية الاجتماعية، وربما ينفق البعض فى أحسن الأحوال ببطاقة الائتمان للحصول على الخدمات الأساسية لأن دخله غير كاف، بل ويسخر بعض ممثلي الإعلام الرأسمالي من "حقوق الإنسان".
في الوقت نفسه تعمل المؤسسات الدولية من خلال الاتجار بقضايا الفقراء، فلا يعنيها تقديم حلول جذرية بقدر ما يعنيها تمرير قروض تسعى لمساعدة الفقراء على التكيف مع حرمانهم من حقوقهم -- ريم عبد الحليم، ليستمر نموذج النمو والإفقار كما هو.
فقبل أن تقلق كثيراً من تفاقم عجز الموازنة خوفاً من توقف الدولة عن توفير خدماتها لك، عليك أن تعود نقطتين للخلف وتتساءل "ماذا وفرت الدولة للفقير من الأساس في وقت توافر الأموال وانضباط المؤشرات؟!"، و"هل يبدو من المنطقي أن يدفعني الخوف من تفاقم عجز الموازنة بحيث تعجز الدولة عن توفير "التعليم والعلاج" على القبول بسياسات تقوم على حرماني من الأساس من هذه الحقوق بحجة تمويل هذا العجز؟". حينها سوف تدرك دور الإنفاق العام، والمسارات البديلة الحقيقية المتاحة لضبطه. وحينها سوف ترى بوضوح شكل المستقبل إذا سار الدرب واستمر على سياسات الماضي، وسوف تدرك المشكلة الإقتصادية وتبدأ الطريق نحو إيجاد الحلول.