رأي.. نخبة مصر المالية: ما لها وما عليها

نشر
7 دقائق قراءة
تقرير عمرو عادلي
وزير الخارجية المصري سامح شكري يتحدث خلال اجتماع مع وزير الشؤون الخارجية الفرنسية ورجال أعمال فرنسيين حول مواضيع اقتصاديةCredit: CHARLES PLATIAU/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

محتوى إعلاني

أثبتت النخبة المالية في الخزانة والبنك المركزي وقيادة البنوك الحكومية الكبرى كفاءة واقتدارا ملحوظين في إدارة ملف تمويل قناة السويس الجديدة، بابتداع أدوات تمويلية في وقت قصير للغاية للاستثمار في المشروع الضخم، وتحميل الخزانة العامة أقل عبء ممكن. وقد جاء إعلان البنك المركزي مؤخرا لنصيب الأموال من غير الودائع في حصيلة شهادات القناة، والتي بلغت ٢٧ مليار جنيه من إجمالي ٦٤ مليارا، دليلا إضافيا على نجاح الرهان المحسوب للنخبة المالية، والتي نجحت في جذب مدخرات ضخمة نسبيا من خارج القطاع المصرفي. كما كان قرار المركزي عدم السماح للبنوك بشراء شهادات القناة في محله لتجنب ما قد يولده هذا القرار من آثار على سعر الفائدة على السندات والأذون الحكومية، وبالتالي تكلفة تمويل الدين العام.

وباختصار يمكن القول أن في مصر نخبة مالية على أعلى مستوى موزعة بين وزارة المالية القائمة المضطلعة بإدارة السياسة المالية للدولة، والبنك المركزي الموكل بصنع وتنفيذ السياسة النقدية. ويضاف إلى هذين نخبة مصرفية في البنوك العامة المملوكة للدولة، والتي لا تزال تحتفظ بنحو نصف إجمالي ودائع الجهاز المصرفي ما يفوق ٦٠٪ من إجمالي الإقراض.

***

لا يمكن فصل كيفية تكون هذه النخبة المالية، خاصة في البنك المركزي والجهاز المصرفي، عن برنامج إصلاح القطاع المالي الذي بدأ في ٢٠٠٣/٢٠٠٤، واستمر على مرحلتين متتاليتين تم خلالهما إعادة هيكلة القطاع المصرفي بوجه خاص، والإتيان بكفاءات من القطاع الخاص ومن البنوك العالمية لتشغل مناصب هامة في المركزي المصري وفي البنوك العامة، وبالتوازي مع هذه العملية فإن نخبة وزارة المالية قد تكونت خلال العقدين الماضيين من جراء التواصل المستمر مع المؤسسات المالية العالمية من خلال برامج تدريب ودراسة في الخارج وخبرات عمل في مؤسسات كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنوك وصناديق تنموية أخرى. وكانت النتيجة أنه قبيل اندلاع ثورة يناير كان لدى الحكومة المصرية مجموعة من الفرق عالية التدريب والكفاءة ومتقاربة الفكر فيما يتعلق بمنطلقات وتنفيذ السياسات المالية والنقدية. وقد انعكست عملية بناء الكفاءات والقدرات هذه على الإدارة الجيدة إلى حد كبير لهذين الملفين الهامين في الفترة التالية على الثورة، والتي شهدت تأزما في الوضع الاقتصادي وتفاقم أزمة الدولة المالية، وتآكل الاحتياطيات الدولارية وزيادة الضغوط التضخمية مع تباطؤ الاقتصاد وتراجع معدلات الاستثمار والتشغيل.

***

ويبدو للمتابعين لمشهد السياسات العامة في مصر أن هذه النخبة المالية المصرفية هي الوحيدة داخل الجهاز الحكومي التي تملك رؤية متوسطة المدى لما يجب أن يكون الاقتصاد المصري عليه في السنوات القادمة -- عمرو عادلي، كما أنها تملك خطة بأدوات معرفة لتنفيذ مثل هذه الرؤية، وعلى الرغم من الكفاءة المحسوبة والمبرهن عليها لهذه النخبة إلا أن هناك تحفظات مشروعة على طبيعة وحجم الدور الذي تلعبه في صياغة أولويات السياسة الاقتصادية في المرحلة الحالية، فمن الواضح أن هذه النخبة ذات التوجه النيوكلاسيكي الاقتصادي المحافظ تعلي من تخفيض العجز الرقمي كأولوية للسياسة المالية، وفي هذا السياق يمكن فهم خطط زيادة الضرائب وتخفيض الدعم والبحث عن بدائل من خارج الموازنة لتمويل التوسع الاستثماري الحاصل، ومن الواضح من الإجراءات التي تم اتخاذها في الشهور السابقة أن أولوية تخفيض العجز قد أتت على حساب جوانب أخرى كتحفيز الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتي أصبحت تحتل مراكز ثانوية بما يتوافق مع إجراءات التقشف.

ومع أهمية إعادة هيكلة مالية الدولة المصرية في فترة أزمة كهذه إلا أنه قد يكون من غير المناسب إسناد صياغة رؤية الدولة الاقتصادية وصناعة سياساتها المالية لنخبة تكنوقراطية مهما كان مستوى كفاءتها عمرو عادلي، والذي هو محل اتفاق واسع بين جمهور المتابعين للملف الاقتصادي في مصر، وذلك أن رؤية الدولة الاقتصادية ليست مسألة فنية بحال من الأحوال بل هي مسألة سياسية بشكل كامل، وليس من الممكن الحديث عن رؤية اقتصادية في المرحلة الراهنة دون تعريف الأزمة التي تمر بها مصر على أنها أزمة اجتماعية مركبة ومتعددة الأبعاد تتضاءل أمامها أهمية أزمة الدولة المالية بحيث لا تحتل موقع البوصلة في توجيه السياسات العامة كما هو حاصل اليوم، بل ينبغي في المقابل أن تجيب الرؤية الاقتصادية التي تصوغها النخبة السياسية لا المالية على الأسئلة الكبرى من عينة مستقبل دور الدولة في تنظيم الاقتصاد وفي الاستثمار ومستقبل علاقة الدولة برأس المال الكبير والمتوسط والصغير، ومستقبل توجه الاقتصاد المصري هل سيكون مستهدفا للتنمية عبر التوسع في التصدير كما كان الهدف في العقد الماضي، أم أنه سيستهدف الطلب المحلي، والآثار التوزيعية لهذه الإجراءات، وبالطبع مستقبل علاقات القوى العاملة بالدولة وبأصحاب العمل ومستقبل الحريات النقابية وحقوق العمل.

***

إن المشهد يوحي بغياب رؤية اقتصادية تقدمها النخبة السياسية التي من المفترض أن يقع على كاهلها تحديد الأولويات، وتمخض عن هذا في المقابل توسع دور النخب التكنوقراطية، والتي بطبيعة الحال تضع الأولويات طبقا لموقعها الوظيفي داخل أجهزة فنية لا تحتك بالشأن العام على نحو منهجي، ولا تحمل هموم التأسيس لنموذج اقتصادي أكثر استقرارا وأكثر قبولا وشرعية، وهي العملية المكملة بشكل طبيعي لجهود إعادة التأسيس لسلطة الدولة في مصر بعد سنوات من الاضطراب المستمر.

لقد أثبتت نخبة مصر المالية قيمتها على مستوى الإدارة وصنع وتنفيذ السياسات، ولا شك أنها ستظل أصلا من الأصول القليلة التي يملكها الجهاز الحكومي المصري في الفترة القادمة. إلا أنه ينبغي عدم تحميل هؤلاء أكثر مما يحتملون، وأن يعاد توزيع الأدوار بحيث تصبح الرؤية الاقتصادية الهم الأول للنخبة السياسية عمرو عادلي.

نشر
محتوى إعلاني